أميركا وسلام القوة
انتهت الحرب الإسرائيلية الإيرانية تماماً كما بدأت، فاصل مسرحي في حرب عبثية، وفي حين لا تزال الهدنة صامدةً، فقد كشفت الحرب التي توقّفت بقرار أميركي مثالب السياسة الخارجية الأميركية، القائمة على استراتيجية "السلام من خلال القوة"،
وعواقبها الكارثية على أمن المنطقة، بدءاً بتنمية الصراعات وإدارتها إلى تقويض التوازن الإقليمي الهشّ، فضلاً عن تحدّيات إمكانية أن تحقّق السياسة الأميركية الحالية سلاماً مستداماً في المنطقة المضطربة.
مع أولوية حماية مصالحها، تحوّلت السياسة الخارجية الأميركية في ظلّ إدارة الرئيس دونالد ترامب أداةً منفلتةً أسهمت في تصعيد العنف والصراع على نحو غير مسبوق، إذ بات تجاوز الأعراف الدبلوماسية،
وأيضاً انتهاك الشرعية الدولية، السمة الرئيسة لإدارة ترامب، فترتّب من ذلك إرباك السياسة الخارجية الأميركية، وأيضاً افتقارها إلى استراتيجية متماسكة يمكن تحديد اتجاهاتها،
فضلاً عن وسمها بطابع شخصي انتقائي (وانفعالي) يتمركز حول إرادة الرئيس وقناعاته الشخصية المتغيّرة، إذ أفضى تقويض آلية صنع القرار الأميركي،
وأيضاً تجاوز الأطر المؤسّسية، أفضى إلى تصعيد سلطة الرئيس، التي باتت إشكالياتها تتجاوز الداخل الأميركي، إلى تحدّيات خارجية، وأهمها مخاطر سوء استخدام السلطة، من خلال شنّ الحروب الخارجية،
كما أن تأرجح السياسة الخارجية الأميركية ما بين الالتزام بتطبيق مبدأ "أميركا أولاً"، الذي يتبناه ترامب، وما بين استراتيجية "السلام من خلال القوة"، كرّس تناقضات جوهرية عكست نفسها في طبيعة التدخّلات الأميركية الخارجية، وهو ما تمظهر في دورها في الحرب الإسرائيلية الإيرانية الماضية.
بيد أن المفارقة العجيبة ليست إصرار ترامب تسويق نفسه منتصراً في حرب جرّت وبالها على المنطقة وعلى العالم، بل سعي أنصاره إلى إيجاد إطار نظري لسياسته الكارثية تحت مسمّى "عقيدة ترامب"،
فكما أن العقيدة السياسية تفترض وجود مبادئ قيمية وركائز واضحة، وهو ما تفتقده سياسة ترامب التي اتخذت نهجاً متقلّباً وأيضاً متناقضاً، مقابل الرهان على تحقيق مكاسب سياسية آنية ونصر إعلامي،
فإن استراتيجية "السلام من خلال القوة"، التي شكّلت أيديولوجية تدخّله العسكري في الحرب الإسرائيلية الإيرانية، لا تقتصر مخاطرها على مثالب إدارة التهديدات من خلال القوة وتبعاتها، بل استخدامها من دون استراتيجية شاملة في التعاطي مع أزمات المنطقة ككل،
وأيضاً غياب مسار دبلوماسي مصاحب يعمل على حلّ الأزمات لا تدويرها، إذ إن تقييم الدور الأميركي يقتضي مقاربة آليات التدخّل ونتائجه، ومدى فعالية السياسة الأميركية حيال إسرائيل وإيران في تحقيق أهداف الولايات المتحدة المُعلَنة،
وأيضاً خفض التهديدات المتبادلة، وتحقيق سلام مستدام في المنطقة، إلى جانب مدى استجابة أميركا لتبعات التصعيد العسكري المتبادل، ومدى وفائها بتعهداتها في حماية الأمن الإقليمي والدولي، بما في ذلك التزامها بمصالح شركائها.
إلى حدّ كبير، شكّل تأمين إسرائيل من التهديدات المفترضة لجيرانها عاملاً مؤثّراً، وربّما حاسماً في توجيه السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، وكذا تحديد آليات تدخّلاتها، التي انتقلت في ظلّ إدارة ترامب إلى دعم غير مشروط، وتجاهل في أحيان كثيرة تأثير هذه السياسات في مصالح أميركا وأيضاً في تحالفاتها،
وهو ما أكّدته مسارات الدور الأميركي في الحرب الإسرائيلية الإيرانية، إذ عكست وبجلاء التماهي مع القرار الإسرائيلي بعيداً من تقييم المكاسب والحسابات السياسية والأمنية على المدى البعيد،
ففي حين استخدمت أميركا القوة العسكرية لدعم حليفها، فإنها قامرت برفع سقف المخاطر على قواعدها العسكرية، إلى جانب المجازفة بدفع المنطقة إلى تخوم حرب شاملة،
وفي حين برّرت إدارة ترامب قصف المنشآت النووية الإيرانية (لتعطيل القدرة النووية الإيرانية) بأنها تهديد أمني، ليس على إسرائيل فقط، بل على كلّ حلفائها في المنطقة، فإن هدفها الرئيس تمثّل بحسم الحرب لمصلحة حليفها، وتقليص مخاطر ذهابه إلى مواجهة عسكرية مفتوحة مع إيران.
ومن جهة أخرى، وإلى جانب تحدّيات تحويل نفسها طرفاً في معادلة الصراع الإسرائيلي الإيراني، التي تتجاوز بأيّ حال الملفّ النووي الإيراني، فإن ذلك يعني مقامرة أميركا بمركزها السياسي قوةً دوليةً المفترض أن تحافظ على السلم والأمن الدوليين، بعيداً من تحيّزاتها السياسية،
بيد أن التحدّيات الحقيقية لإدارة ترامب تتجاوز إنهاء جولة الحرب الماضية إلى قدرتها على ضبط هذا الحليف مستقبلاً، سواء بالتزامه بالتهدئة مع إيران، أو بتحويل التهدئة هدنةً دائمة بين العدوَّين،
إضافة إلى نتائج عملياتها العسكرية في تطمين حليفها من المجازفة بشنّ حرب أخرى على إيران في المستقبل، وكذلك تحدّيات تحقيق مستوى من التوازن في السياسة الخارجية الأميركية، بين دعم حليفها وبين أولوياتها في المنطقة،
فضلاً عن تعقيدات تداخل الملفّات الأمنية والسياسية من الملفّ النووي الإيراني إلى حرب إسرائيل في قطاع غزّة، وتأثيرها على البيئة الأمنية الإقليمية وتحالفاتها، ممّا يقتضي إيجاد استراتيجية أميركية شاملة في منطقة الشرق الأوسط،
والأهم مسار سياسي لحلّها، وإذا كان ترامب يعوّل بعد فرضه الهدنة بين إسرائيل وإيران على تثبيت معادلة القوة والردع بتأكيد انتصاره وانتصار حليفه على إيران، فإنه يهدف باستثمار نتائج الحرب السابقة إلى تغيير المعادلة الفلسطينية أولاً،
وأيضاً الضغط على حليفه لاستئناف مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، إلا أن ما تثبته التجارب السابقة أن قدرة ترامب على إقناع حليفه تتوقّف على أهداف إسرائيل، التي لا تعني بأيّ حال وقف حروبها.
في المقابل، ومع أن إيران جزء أصيل من السردية الأميركية للشرّ، وتهديد مصالحها في المنطقة، وهو ما اقتضى أشكالاً من العقوبات والتقييد، فإن أزمة السياسة الأميركية حيال إيران لا تكمن في مقاربة التهديد والمخاطر فقط،
وأيضاً طبيعة المعالجة وضرورتها، بل في تناقضها من حيث الخيارات وتقييمها في ضوء التهديدات الحقيقية، وهو ما تمظهر في التدخّل العسكري الأميركي وقصفها منشآت نووية إيرانية.
فبعيداً من توصيف إدارة ترامب لعمليتها الخاطفة بأنها دفاع عن النفس، ووسيلة لإجبار إيران على وقف برنامجها النووي، فإن التناقض بين تبنّي آلية الخيار التفاوضي وبين استخدام القوة العسكرية وضعت الإدارة الأميركية في مأزق جديد، بما في ذلك جدوى سياساتها المستقبلية حيال إيران،
فإلى جانب أن هذا الإجراء، الذي خضع كما يبدو لتقديرات ترامب، قد يوثّر في القدرة التفاوضية لأميركا، بما في ذلك تقليص فرص وقف إيران أنشطتها النووية، فإن استهداف أميركا لإيران يضع السلطة الإيرانية في تحدّ داخلي، ما بين قبول الخيار التفاوضي ومن دون شروط،
وبين المراوحة في موقف دفاعي، كما أن سيطرة المزاج الانفعالي للرئيس الأميركي قد يؤثّر في مستقبل السياسة الأميركية حيال إيران، بما في ذلك العلاقة بين البلدَين، إذ إن التأرجح ما بين التهدئة السياسية والتلويح باستهدافها إيران عسكرياً في المستقبل،
قد يؤدّي إلى تصلّب القرار الإيراني، سواء في تقديم تنازلات في برنامجه النووي أو السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بمراقبة منشآتها النووية، ومع أنه لا يمكن التكهّن باستئناف المفاوضات الأميركية الإيرانية في ظلّ استمرار التصعيد الإعلامي المتبادل،
فإن أهداف أميركا المتناقضة، ما بين تصفير تخصيب اليورانيوم وتقييده، يضاعف حالة الشكّ بقدرتها على إحراز تقدّم في الملفّ النووي، ناهيك عن أن تؤدّي السياسة الأميركية حيال إيران إلى نوع من التهدئة الإقليمية، وتحقيق سلام مستدام في المنطقة.
في المحصلة، إن استخدام القوة العسكرية لا يصنع السلام، وإن غيّر مؤقتاً موازين القوى بين المتصارعين، وهو ما أثبتته حرب الاثني عشر يوماً، التي رفعت إلى حدّ كبير من القيود الأخلاقية والسياسية على استعمالات القوة، مقابل تكريس حالة الصراع في المنطقة،
وفي حين أثبتت أميركا (كالعادة) تضحيتها بأمن حلفائها، وتنصّلها من تعهداتها الأمنية والدفاعية مقابل حساباتها السياسية الآنية، فإنها وإن أعلنت انتهاء الجولة الأولى من حرب عبثية، فإن ذلك لا يعني ترويض الحلفاء والأعداء،
وبالطبع لا يمنحها شرف الانتصار، أو صفة "قوة سلام"، إذ يكفي وجود رئيس نرجسي وخارج عن السيطرة لدفع العالم بغمضة عين إلى حافة الهاوية.
* كاتبة وناشطة يمنية