الوطن الذي يعاقبك إن وعيت
كان قدر الإنسان أن يحيا كالأشجار، تنمو في صمت وتموت في صمت، لا تسأل عن سر الوجود ولا تتمرد على قدرها المحتوم.
لكن شيئًا ما تمرد في أعماقه، استيقظ في لحظة فارقة منذ خروجه من جنة الغفلة الأولى.
لقد وعى. ومنذ أن بزغ نور الوعي في فؤاده، لم يعد آمنًا قط. الوعي ليس مجرد إدراك عابر،
بل هو جرح أبدي في القلب، عين لا تغمض أبداً حتى في أحلك الظلمات، وعقل يأبى الصمت. فالبهيمة إذا شعرت بالخوف ولّت هاربة، أما الإنسان،
فإذا اعترته الرهبة، أخذ يفكر ويتأمل. وهنا بالضبط تكمن مأساته الأزلية.
الوعي هو ذلك الشعور الثقيل الذي يهمس لك بأنك لست مجرد جسد يستهلك الطعام والهواء، بل كيان عميق يأسره هاجس الحقيقة الأبدية.
لكن الحقيقة لا ترحم، ولا تعتذر عن قسوتها، ولا تأتيك بخطوات وادعة. إنها تهبط عليك كالصاعقة، تجردك من كل قناع أمام نفسك، وتتركك بعد ذلك وحيداً أمام مرآة لا تعرف الكذب.
لهذا السبب، يفضل الكثيرون الفرار منها والعيش في وهم مريح.
والأشد إيلامًا من ذلك، أن تحمل هذا الوعي الثمين في زمن يمجه، بين قوم يحاربونه، وفي وطن يمزق أوصاله لأن الوعي فيه رفاهية لا تُطاق، والحقيقة فيه عدو لدود.
في اليمن، يُدفن الوعي كل يوم، لا بتراب المقابر، بل بسيول الدعاية المضللة، وبصخب الشعارات الزائفة، وبلعنة المذهبية المقيتة، وبعماء العصبية الجاهلة، وبكل ما يدفع الإنسان إلى التشبث بالوهم لأنه أسهل وأقل كلفة من المواجهة الشجاعة.
هناك، يُذبح المفكر قبل أن يخط كلماته، ويُتهم العاقل بالخيانة لأنه يرفض التصفيق الأعمى، ويُحتقر الحر لأنه يأبى أن يكون عبداً ذليلاً.
كم من أمة ماتت وهي تجهل أنها تحتضر؟ وكم من شعب غرق في الخداع لأنه لم يمتلك وعي الشك المقدس؟ الوعي مؤلم، نعم، لكنه الحصن المنيع والوقاية الوحيدة من الانجراف الجماعي نحو هاوية الوهم الأبدي.
اليمن ليست مجرد حرب ضروس بين أطراف متناحرة، إنها معركة وجودية بين الوعي والخرافة، بين من يصبو إلى التفكير الحر، ومن يريده أن يسجد خاشعاً دون تفكير.
هناك، حيث تنام المدن في عتمة الجهل، وتستيقظ على هدير خطباء لا فلاسفة، على قرع البنادق لا على دوي الأسئلة العميقة. هناك، يُعاقبك الناس إذا تجرأت وحاولت إيقاظهم من سباتهم العميق، لأنهم عشقوا نومهم الوثير، حتى وإن كان ذلك على شفا الهاوية.
الوعي يشدك بقوة نحو حافة الخطر، لكن الجهل يدفعك دفعاً للسقوط المريع. ولهذا، كلما ازداد عدد العقلاء في أمة، علت رايات نهوضها، وكلما تكاثر المصفقون، تسارعت وتيرة اندثارها.
من وُهب الوعي، لم يُمنح راحة البال، بل مُنح رسالة سامية.
رسالة أن يرى القبح بوضوح ولا يقبل به، أن يشق طريقًا وعراً في صخر التبلد الجامد، أن يصرخ بأعلى صوته وإن خنقوا أنفاسه، أن يكتب وإن مزقوا دفاتره، أن يشير إلى الجرح النازف وإن أنكروه بوقاحة.
ما أقسى أن تشاهد شعبك يسير بخطى حثيثة نحو الهاوية، وأنت وحدك من يرى أنها هاوية محققة! وما أصعب أن تحب وطنك بصدق وإخلاص،
ثم تراه يُصفع باسم الدين، ويُنهب باسم القرابة، ويُقيد بأغلال الطاعة العمياء.
لكن، ما السبيل؟ هل نكفر بهذا الوعي الذي يجعلنا نرى ما لا يراه الآخرون؟ هل نلعنه لأنه يورثنا الألم؟ لا وألف لا. ربما قُدر لنا أن نحترق بنار الوعي، لا لنسعد.
ربما لا خلاص لنا من هذا القدر، ولكن على الأقل، لن نخون الحقيقة أبدًا.
الوعي لا يحررنا من وطأة الألم، بل يعلمنا كيف نحمله بكرامة وشرف. يعلمنا كيف نصمت صمت الواثق دون أن نُذل، وكيف نقاتل بشرف دون أن تتسرب الكراهية إلى قلوبنا، وكيف نحيا حياة أصيلة دون أن نرضخ للكذب والخداع.
ربما لم يُخلق الإنسان ليكون مرتاحًا، بل ليكون يقظًا ومتأهبًا.
وربما على اليمن، هذا الكائن الجريح الذي أنهكته الأيام، أن يعبر كل هذه الآلام العاتية كي يولد من جديد كأمة لا تنخدع بسهولة، ولا تستسلم لتنام في أحضان جلادها.
الوعي ليس نعمة محضة في بدايته المرة، لكنه يظل الأمل الأخير لنا في أن نكون جديرين بالحياة.