رحلة تفاوت التعليم وتشكيل العقل!!!
قبل عدة أشهر، كنت أتحدث مع ابنتي التي تدرس الماجستير في تخصص معقد يُدعى هندسة النظم البيولوجية أو الحيوية، وهو تخصص يدمج بين علوم الحاسوب، والأتمتة، والأحياء، والكيمياء. نحن جميعًا نفهم لغة الهندسة ونشارك الطموحات نفسها،
لكن اختلافنا كان في البداية، أي في النظم التعليمية المدرسية التي تنتمي إليها كل منا. فأجد نفسي أقارن بين تجربتي التعليمية في اليمن وتجربتها في ألمانيا، فهي نتاج نظام تعليمي متقدم، وأنا نتاج نظام مختلف تمامًا.
دائمةً ما أقول في نفسي إنها نسخة أخرى مني، ولكن البدايات كانت مختلفة ويثيرني الى اين سوف يصل تفوقها واجتهادها.
كانت ابنتي أيضًا طالبة في محاضرات الذكاء الاصطناعي والانماط التي كنت أدرسها هنا، رغم أنها في كلية أخرى، وكان شعوري كأب في قاعة المحاضرات غريبًا؛ وجودها بين الطلاب جعلني أتجنب النظر إليها خوفًا من أن أضحك لاني في البيت امازحها دائما، خصوصًا وأنني أردت أن أخبرها بهدوء "ها أنت مضطرة لتحمل كلامي ودوشتي اي المحاضرة لمدة 90 دقيقة دون أن تقاطعينني بكلمة".
خلال نقاشنا، سألتها عن مدى فهمها للمحاضرات في تخصصها، فقالت إن فهمها يتراوح بين 85% و95%، وهذا يرجع إلى الخلفية الصلبة التي اكتسبتها في نظامها المدرسي حيث كانت متفوقة، وهنا اجد الجامعة كانت بالنسبة لها استكمالًا لتلك القاعدة.
سألتني حينها عن مدى فهمي أنا عندما كنت طالبًا، فأجبتها بأني لم أكن أفهم أكثر من 25% والزيادة معي بسبب المصطلحات المعقدة واللغة، وأمثلة الشرح السريعة، والروابط الرياضية والفيزيائية التي لم أكن أفهمها.
كنت أتعامل مع المعادلات دون وعي حقيقي لمعناها، كما تعلمنا أن نبصم فقط لأن ذلك ما يطلبه نظامنا التعليمي في المنطقة العربية، ولتعويض نقص الفهم في المحاضرات
كنت أقضي ساعات طويلة في قراءة الكتب والترجمة وفهم منطق الكتاب، دون أن أجد يوم راحة خلال الفترة الجامعية كلها.
أذكر جيدًا أيامي كطالب في جامعة ألمانية، حيث كنت أصر على الجلوس في الصف الأول لأتمكن من استيعاب ما اقدر لصعوبة التخصص. كنت أراجع محتوى المحاضرات مسبقًا لتسهيل الفهم، وأحيانًا أصحح معادلات المحاضر أثناء الشرح أو أسبقهم في الإملاء.
كنا حوالي 200 طالب وكنت الاجنبي الوحيد، وكان الجميع يعتقد أني عبقريّ، بينما الحقيقة كانت أنني اكرر واحفظ مايصعب فهمه من المعادلات او غيره. ومن الغريب أنني كنت أنجح بجيد جدا وبامتياز رغم أن الفهم الحقيقي للعلم جاء إليَّ فقط في سنواتي الأخيرة.
في تلك الفترة، تعرفت على ثلاثة من أفضل الطلاب الألمان في الجامعة، وكل منهم لديه قصة تستحق السرد والتوثيق كان وقتها لقاء بين ثقافة الشرق والغرب وكيف كنا معا في طريق واحد. كنا نذاكر معًا، ونخرج ونطبخ ونأكل معًا،
وكنت ألاحظ الفارق الجوهري بيني وبينهم، بسبب اختلاف نظم التعليم التي نشأنا فيها. كان هدفي التعلم منهم، خاصة التفكير المنطقي والعلمي، دون الإفصاح عن ذلك، وعلمتهم عربي وثقافتنا.
بعد سنتين، تفرقنا لتخصصات مختلفة مع استمرار صداقتنا ولقاءتنا بشكل مستمر، وقد اكتسبت منهم كثيرًا مما كان ينقصني وعرفوا اليمن والعرب مني وكنت صورة حسنة لثقافتنا ومنهجنا العربي.
بعد تخرجنا، قرر كل واحد منا مسيرته الخاصة. اخترت متابعة الدكتوراه بهدف العودة إلى اليمن ورفع رايته -كما كنا متشنجين بشعارتنا وقتها-،
بينما اختار الآخر العمل في الصناعة رغم ذكائه الفذ، وكان يتجنب المحاضرات التقليدية مثل الاتمتة والكهرباء والطاقة ليحضر محاضرات كلية الآداب، التي تعرف فيها على صديقته،
ومع ذلك كان يتفوق علينا في الامتحانات ويبدع في تصميماته الهندسية، وكنا نستغرب من أين له هذا الذكاء.
في مادة الدينامكية الحرارية تحدث البرفيسور في القاعة انه صمم اختبار صعب لنا احتاج هو كبرفيسور وصاحب الاسئلة ساعة لحله والدكتور عنده ساعتين ولذا اعطانا للامتحان ثلاث ساعات وقت. صاحبي كان بجانبي مزح باتجاهي وقال أنا سوف اخلصه في اقل من اربعين دقيقة.
وجاء ذلك اليوم وحصل انه في قاعة المحاضرة بعد اربعين دقيقة رفع يده يسلم الاوراق. في تلك المادة رسب اكثر من نصف الطلاب والسبب هذا الطالب صاحبي لانه خبط العلامات النهائية فتغير ميزان التقيم للكل.
أما الثالث منا، فكان عبقري الجيل فينا اي بين 200 طالب ، يختصر إجابات الامتحانات في صفحة واحدة بينما كنا نكتب عشر صفحات، وكان معروفًا بقدراته المتميزة للبرفيسورات والدكاترة.
رغم تفوقه في الماجستير، اختار أن يدرس الرياضيات خمس سنوات من جديد بدلًا من الاستمرار في تخصص الأتمتة او الدكتوراه او العمل، رغم العروض الوظيفية المرموقة التي تلقاها، وهو موضوع يستحق التوثيق.
أما الرابع، فكان بارعًا في الإلكترونيات، يمتلك معملًا خاصًا، لكنه توقف عن الدراسة في السنة الثالثة لأسباب متعددة. كنت اقول في نفسي مثل هولاء يستطيعون أن ينتشلون مجتمع تقنيا لاني اعرف قدرتهم.
المهم مع مرور الوقت، ظننت وقتها أنني فهمت روح ألمانيا وثقافتها، لكن كانت كل مرحلة جديدة من الدراسة والعمل تطرح أسئلة أخرى.
لكن مع أطفالي، بدأت افهم ألمانيا بشكل اعمق حيث كنت أدرس منظومة المناهج الألمانية من الصف الأول وحتى الثانوية معهم، وبدأت أفهم بعمق كيف تعمل المدرسة والطالب والجامعة والأسرة معًا.
أدركت بعد سنوات طويلة سر تفوق أصدقائي في الجامعة، واستغرابهم لكوني أدرس لساعات طويلة بينما هم يذاكرون أقل ويرتاحون أكثر.
الآن أعتقد أنني فهمت ألمانيا من خلال مدارسها؛ لماذا هي أرض العطاء المعرفي، وكيف تخرج فكرًا منفتحًا وإنسانًا مبدعًا ومنتجًا يخطط ولا يرتجل.
أتمنى أن تتاح لي فرصة للراحة لمدة عام لأوجز كل ما تعلمته من الغرب في كتب تُسهل رحلتكم وتلخص مسار اكثر من ثلاثة عقود من الجعث بينهم.