الآخر: كأنكم مثلنا!
حين صدر أول كتاب لي: "باليمين والشمال: النساء العربيات يتحدثن عن أنفسهن" في المملكة المتحدة عام 1988، دعتني مديرة دار النشر لأقوم بحملة ترويجية للكتاب في مدن بريطانية عدة. وفي اللقاء الأول مع مجموعة كبيرة من السيدات، لاحظت أن كل واحدة منهن تتأبط نسخة من كتابي. فبدأت بالقول بعد التحية: "يبدو أنكنّ قرأتنّ كتابي، وليس لديّ شيء أضيفه إلى ما كتبته، ولذلك أقترح أن تتفضلن بطرح الأسئلة التي ترغبن في طرحها". رفعت سيدة سبعينية يدها، ووقفت بعدها مباشرة لتقول: " لا أعلم كيف أصيغ سؤالي لك، ولا تحضرني الكلمات ولكن "تبدون وكأنكم مثلنا".. قالت عبارة "كأنكم مثلنا" في استغراب ودهشة شديدين. أجبتها بابتسامة هادئة وبروح سخرية: "أليس هذا شرفاً عظيماً أن نكون مثلكم يا سيدتي؟ "
كوني عشت في بريطانيا لأكثر من ست سنوات ودرست تاريخهم وأدبهم، أعلم كم نظرتهم الدونية إلى الآخر متجذرة وعميقة في نفوسهم وثقافتهم وتربيتهم، وأنه لا يشبههم أحد في العالم في شيء، وهذا كان هدفي من نشر الكتاب لديهم أصلاً؛ أيّ أن أريهم أن المرأة العربية حاضرة في التاريخ والأدب والسياسة والحكم، وأن الصورة الاستشراقية عنها لا تمتّ إلى واقعها بصلة. ولكنّ النظرة إلى "الآخر" في الغرب متعمّقة ومتجذرة وذات أسباب سياسية واقتصادية وكولنيالية وتخدم أهدافاً عضوية وحيوية لقيام واستمرار الإمبراطوريات والدول المهيمنة الناهبة لثروات الشعوب والمبيدة إبادة جماعية للملايين من الشعوب حرباً وقتلاً وأوبئة.
وحين زرت أستراليا عام 2006 في أعقاب انتصار المقاومة في حرب تموز، وعرضت في الجامعات الأسترالية مشاهد للوحشية الإسرائيلية ضد النساء والأطفال، كان يسود صمت القبور على مدرج الجامعة، ولا أحد يريد أن يعلّق أو يؤكد خوفاً من الابتزاز بـ"معاداة السامية". ولأن الحضور يعتبرون أن الصهاينة منهم، فهم بيض وأوروبيون، ولذلك يحق لهم قتلنا لأننا الآخر الذي يعادونه دوماً، وتوضّح هذا الشعور لديّ حين زرت في سيدني عوائل من الأبورجينز، السكان الأصليين لأستراليا، وروى لي مسؤولهم قصص وصول الإنسان الأبيض إلى شواطئ أستراليا، وكيف بدأ منذ وصوله باصطياد الأبورجينز وقتلهم كالحيوانات؛ لأنه رأى فيهم صنفاً آخر من البشر أقلّ منه وأدكن سحنة. وبعدها، بدأت معاناة الأبورجينز حيث سلبوهم أطفالهم وأكرهوهم على عدم التكلم بلغتهم كما حدث في إسبانيا بعد سقوط الأندلس، واستبدالها بلغة المستوطنين الجدد وعاداتهم.
أمّا الأميركيون الأصليون فلا نعرف عنهم إلا النزر اليسير، ولكننا نعرف أنه تمّت إبادتهم كلياً وتمّ تدمير كل وسائل عيشهم ونشر الأمراض بينهم، والقلة القليلة المنحدرة منهم ما زالت في معتقلات بائسة تُعامل معاملة لا تليق بالبشر، وأكملت هوليوود مهمة تبرير إبادتهم بعرضهم بشكل ساخر؛ فهم عراة ولغتهم أصوات مبهمة، وهذا لا يمتّ إلى واقع حضارتهم وفنّهم بصلة.
من المهم استحضار كل هذا وغيره الكثير لنفهم كيف يمكن لأي قوة غاشمة أن ترتكب كل هذه الفظائع في القرن الحادي والعشرين، وأن تحكم على مليوني إنسان ونيف في فلسطين بالإعدام والموت قتلاً وجوعاً، من دون أن تتعرض لأي عقوبة من دول الغرب التي تدّعي أنها متحضرة، ومن دون أن يدرج اسمها في قائمة الإرهاب، ومن دون أن ينبري الذين يدّعون الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة والطفل ليوقفوا أكبر جريمة إبادة ترتكب بحق النساء والأطفال والرجال على مرأى ومسامع البشرية برمّتها، من دون أن نشهد جهوداً حقيقية لإيقاف هذه الإبادة وطرد مرتكبيها من الأسرة الدولية ومحاكمتهم، وإنزال أشد العقاب بهم كما حصل لمجرمي الحرب الألمان والروانديين وصربيا. كي نفهم دوافع المرتكبين والصامتين عنهم في الغرب والمروّجين لهم في وسائل الإعلام، يجب أن نفهم نظرية "الآخر الذي لا يشبهنا "، ولذلك يجوز بحقه القتل وارتكاب كل الجرائم التي تؤدي إلى وضع نهاية له. فإما أن "تشبهنا" وإما لا حق لك في الوجود.
ومن هذا المنظور، كتبت نسرين مالك مقالاً هامّاً في جريدة "الغارديان" مؤخراً بعنوان: "في غزة هناك حرب على النساء، هل يتجاهلها الغرب لأنهم لا يشبهوننا". نعم، لقد تجاهلها الغرب وتجاهل أقسى أنواع العذاب التي يمكن أن تفرض على بشر، فهل يعقل أن يتضور جوعاً أكثر من مليون فلسطيني ولا يُسمح بإيصال الغذاء والدواء لهم؟!! بل إنّ القوى الصهيونية تستهدف الغذاء والدواء وتقتل الفلسطينيين في السجون وتقصف المشافي وتقتل الكوادر الطبية التي نذرت نفسها للمساعدة وتلاحق اللاجئين في أي مركز إيواء لتقتلهم، علماً أن كل سكان غزة هم لاجئون نتيجة المجازر التي ارتكبها الصهاينة عام 1948 وسببوا النزوح الكبير في النكبة، فلجأ الفلسطينيون من كل أنحاء فلسطين إلى قطاع غزة ليعيشوا اليوم نكبة أمرّ وأدهى.
وفي هذا السياق التاريخي السليم، فإن الهدف الذي أعلنه الصهاينة لعدوانهم هذا هو عنوان مضلل. فقد أعلنوا أن هدفهم هو القضاء على حماس، وأنهم لن يوقفوا حرب الإبادة هذه إلى حين القضاء على حماس، ولكنّ الهدف الحقيقي هو القضاء على الشعب الفلسطيني، وما الاستهداف النازي للأطفال والنساء والحوامل سوى تعبير فاضح لهذا الهدف الذي يحاولون تحقيقه من خلال إبادة شعب كامل تحت عناوين وذرائع مكشوفة ومفضوحة.
إنّ تصريح نتنياهو الذي كرره مرات عدة بأنه سوف يستمر في الحرب ويمضي قدماً بها حتى تحقيق النصر هو تصريح مخادع الهدف منه التغطية على جرائم إبادة جماعية بشعة وقذرة تُرتكب بحق شعب أعزل، وضد كل الشرائع والمواثيق الدولية. فهل هذه حرب بين أعتى قوة عسكرية في العالم وبين مجموعة مجاهدين قرّروا الذود عن أرضهم وكرامتهم بلحمهم الحي، بينما يتعرض كل أبناء شعبهم لإبادة لا تبقي ولا تذر؟
تقول الـ"نيوزويك":"كما هي الحال في صراعات عدة في العالم، فإنّ تقديرات مسار الحرب تختلف بشكل جذري بين الطرفين المتحاربين" (النيوزويك 7/2/2024: ست رسائل من حماس). هل الأطباء والنساء والأطفال والمنازل والجامعات والمشافي والمساجد والمدارس والكنائس التي تُدمّر فوق رؤوس أهليها هي طرف في الحرب والطائرات والقنابل والدبابات طرف ثانٍ؟ كل اللغة المستخدمة في وسائل الإعلام الغربية لغة مضلّلة هدفها التغطية على حرب إبادة "الآخر" في غزة وتبرير جرائم الحرب لأن مجرمي الحرب هم بيض وأوروبيون، والضحايا هم "الآخر" الذي يعادونه في الصميم. المقاومون هم مجموعة من المحاصَرين لعقدين من الزمن ويحاولون بوسائلهم البسيطة تحقيق حق شعبهم في العيش على أرضه بينما يملك العدو ترسانات من السلاح والمال لا تنفد من خزائن الولايات المتحدة وهي مفتوحة لحرب الإبادة هذه. ولا يمكن للغرب أن يصمت عن كل هذه الجرائم لولا أنه مقتنع في قرارة نفسه أن الذين يموتون "لا يشبهوننا" ولذلك فهم يستحقون الموت وهذا ما يقوله الساسة والإعلاميون في الغرب علناً وأن الغرب برمّته يدافع عن الذي يشبهه؛ عن أصحاب السحنة البيضاء والعيون الزرقاء فقط.
النصف المفقود من المعادلة هو أن الذين لا يشبهونهم يجب أن يروا أنفسهم بعين واحدة، ويدافعوا عن كل منهم دفاعهم عن أنفسهم، تماماً كما يفعل لبنان والعراق وسوريا واليمن وإيران اليوم دفاعاً عن أهل فلسطين؛ فليس صحيحاً أن ما يجري في لبنان والعراق واليمن واستهداف سوريا لا علاقة له بما يجري في فلسطين، بل إنها أرض معركة واحدة وإن كانت القوى غير متكافئة على الإطلاق فالقوى المعتدية تحصل على كل وسائل القتل والتهجير والتدمير بينما لا تحصل القوى المدافعة عن أرضها ونفسها وكرامتها حتى على لقمة العيش لشعبها المظلوم.
إن كل ما تعاني منه بلداننا من ظلم وعدوان وحروب وإرهاب إنما هو ناجم عن هذه النظرة الاستعلائية في الغرب، ومحاولتهم تطويع الشعوب والبلدان إما لتشبههم أو لتكون خانعة لهم وخاضعة لأساليب عيشهم وتفكيرهم. ومن هذا المنظور، فإن الحرب التي خاضتها سوريا ضد الإرهاب هي حرب تثبيت الذات ورفض الانجرار وراء ما يرغبون، وكذلك العراق واليمن ولبنان يحاولون التحرر من القبضة الاستعمارية الغربية التي تعمل أن تكون صاحبة القرار في ثقافتنا وطرق عيشنا واستغلال مواردنا.
أما ما كانوا يدّعونه من "حرية إعلام "و"حقوق المرأة وتمكينها" و"حقوق الطفل" و"الموضوعية" في التعامل فقد سقط سقوطاً مدوياً، ولا بدّ أن تكون معاناة أهل فلسطين ناراً تحرق كل ما قبلها وتؤسس لمفاهيم وتقييمات سليمة وموضوعية وتستند إلى الواقع وليس إلى كل الأكاذيب التي يروّج لها إعلام الغرب المشارك في حرب الإبادة؛ فنحن في نظرهم ذلك "الآخر" الذي لا يستحق الحياة التي يعيشون ولا التعاطف الإنساني الذي يجب أن يكون طبيعياً بين أبناء البشر.
كم هو مخزٍ للبشر جميعاً اليوم ألا يتمكنوا من وقف وحشية الصهاينة بحق شعب أعزل. وستكون حرب الإبادة التي يشنها كيان الأبارتيد الصهيوني على سكان غزة وفلسطين عموماً وصمة عار على من شهدها ولم يعمل على إيقافها خاصة الدول ذات المكانة والقدرة على إيقاف ذلك.
* بثينة شعبان - المستشارة الإعلامية في الرئاسة السورية