الأزمة اليمنية في حسابات إقليمية ودولية معقّدة
كان 2024 عام الانكشاف وإعادة التموضع في ما يخص اللاعبين الإقليميين والدوليين في الملفّ اليمني المُعقَّد. أمّا داخلياً فابتعدت الأزمة اليمنية من مسار التسوية السلمية، وما عرف بخريطة الطريق الأممية، التي كان أطراف الصراع قريبين من توقيعها.
فقدت السياسة حضورها، وتسيّد التصعيد العسكري المشهد، وخرجت الحرب اليمنية بتداعياتها من الحيّز المحلّي والإقليمي إلى الأفق الدولي، أصبحت أكثر اتصالاً وتداخلاً مع ملفّات الصراع الإقليمية الناشبة.
القول المشهود هنا إن المنطقة العربية ما قبل "طوفان الأقصى" (2023) ليست كما بعدها، ينسحب تماماً على الواقع اليمني الحالي. أعادت الأطراف الإقليمية والدولية تموضعاتها، وأُعيد تعريف المُشكل اليمني من الفواعل المؤثّرة بناءً على تطوّراته الجديدة.
انتقلت السعودية، وهي متدخّل رئيس في التعقيد اليمني، من مربع المواجهة المباشرة مع الحوثيين، إلى وسيط يدفع بعملية السلام والتسوية السياسية التي صاغتها بواسطة عُمان، وقدّمتها للمبعوث الأممي بمسمّى "خارطة الطريق"، تتضمّن المحدّدات الرئيسة للمستقبل اليمني الذي يأبى القدوم. الانتقالة السعودية كانت خلاصة تسع سنوات من الحرب (وما استلزمته من نفقات اقتصادية مهولة) أدركت خلالها الرياض أن الأطراف الدولية المتحكّمة في صاغية شكل العالم وتوازناته (الولايات المتحدة وبريطانيا) تريد لها الغرق في اليمن، وهو ما لا يتماشى مع الطموح السعودي الجديد. على العكس تماماً، تحوّلت الولايات المتحدة من طرف يبيع السلاح للسعودية ويكسب حجّة استخدامه في اليمن، طرفاً يمارس لعبة التدمير هناك، وينشد عودة السعودية إلى اللعبة ذاتها، مستخدماً أدوات الضغط الدبلوماسي كلّها لإعادتها. المتغيّر هنا أمن كيان الاحتلال الصهيوني، أمّا الثابت فدمار البلد المنكوب والقضاء على ما بقي من هامش للحياة.
مثّلت هجمات الحوثيين ضدّ الملاحة البحرية في الممرّ الملاحي الأهم (باب المندب)، تحت لافتة مناصرة المقاومة الفلسطينية، تعقيداً جديداً للأزمة اليمنية المعقّدة أصلاً، وجعلتها أكثر اشتباكاً مع ملفّات الصراع الإقليمية، وغيّرت كثيراً في المقاربة الإقليمية والدولية للوضع اليمني. كان المبرّر الأخلاقي والقومي، الذي استظلّ تحته الحوثيون لشنّ هجماتهم،
هو ذاته المأزق الذي جعل الدول الإقليمية العربية تتحمّل أعباء تلك الهجمات، صامتةً رغم الأضرار الكبيرة التي تعدّت الجانب الاقتصادي إلى الجوانب الجيوسياسية والجيوستراتيجية، أي إنها تضرّرت حتى في أمنها القومي والحيوي.
تدرك هذه الدول منطلقات الهجمات الحوثية وأهدافها وتبعاتها، لكنّها تتحرّج من الاصطفاف أو حتى ممارسة ضغوط ضدّ الحوثيين، بينما تمارس إسرائيل إبادةً جماعيةً ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة، وهذا ربّما يفسّر رفض الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر الانخراط ضمن التحالف الأميركي ـ البريطاني (تحالف الازدهار)، وتأكيدها الدائم ضرورة وقف الحرب على غزّة مقدّمةً لإيقاف العمليات العسكرية ضدّ الملاحة البحرية، وأن يكون أمن البحر الأحمر مسؤولية الدول المشاطئة. على النقيض من ذلك الموقف منزوع المخالب، تتصرّف إسرائيل برؤية استراتيجية واضحة، دالّتها الأساسية أن استمرار الحرب والقتل في غزّة يقود بالتبعية إلى استمرار الهجمات الحوثية،
وهذا المراد لها كي تحقّق أهدافها الاستراتيجية، والمتمثلة في؛ توسيع مجالها العملياتي والحيوي في البحر الأحمر، والانتشار والتمركز فيه، وهذا يعني على المدى الاستراتيجي إطباق الحصار على مصر وتطويقها؛ استكمال ضرب الأذرع المتبقّية لإيران في المنطقة العربية (جماعة الحوثي)، ومن ثم رسم خريطة المنطقة وفق مقتضيات الشرق الأوسط الجديد؛ الاقتراب أكثر من السعودية، والوصول إلى عمقها الحيوي، وهذا سيوفّر لها وسيلةَ ضغط جديدة على الرياض في مفاوضات التطبيع.
المتابع بتفكر وتحليل عميق للأحداث المتداخلة مع الملفّ اليمني، خلال عام 2024، سيدرك أن الأهداف المذكورة آنفاً، وُضِعَت فعلاً موضع التنفيذ، أمّا الاستدلالات عليها فكثيرة، منها التهرّب المستمر من اتفاقية الهدنة بغزّة، رغم الضغوط الدولية الكبيرة، والعمليات العسكرية الجوية التي ينفّذها الكيان الصهيوني ضدّ المنشآت المدنية والاقتصادية في اليمن، وأكثرها أهميةً ما أعلنته إذاعة مونت كارلو بشأن نيّة الكيان الصهيوني نشر سفنٍ وبوارجَ وغوّاصات في البحر الأحمر، من أجل عملية عسكرية كبيرة مرتقبة.
والماثل أن اليمن يدلف إلى العام الجديد بحسابات إقليمية ودولية معقّدة، ليس في ظاهرها شيء له علاقة بمصلحة اليمنيين ومستقبلهم المرجو، ولا ضمنها ما هو متعلّق بمصالح الأمن القومي العربي، ذلك لأنّ السلطة الشرعية اليمنية فشلت طوال سنوات الصراع العشر العجاف في نسج علاقات وشراكات مع الإقليم والعالم من جهة، أو خلق أنموذج صالح للاستقرار والبناء عليه، من جهة أخرى، بخلاف عجزها المشين عن فرض واقع جديد خارج الحسابات والمعوقات التي تصدّرها للناس.
والحال ذاته في ما يخص العرب، الذين يقفون موقف المتفرّج من الإجرام الإسرائيلي الذي أصبح مهيمناً ومتحكّماً، يعيد تشكيل المنطقة العربية كيف ما يشاء.
في الواقع لقد نجحت الإدارتان الأميركية ـ الإسرائيلية في فكفكة اللحمة العربية على المستويَين الرسمي والشعبي، وأعادتا تصوير مصالحهما المفترضة بما تقتضيه مشاريعهما التوسّعية، وسخّرتا لذلك الهدف أدواراً إقليميةً، ظاهرها نصرة القضايا العربية العادلة، وباطنها خلق المبرّرات وإفساح المجال للهيمنة الإسرائيلية، أمّا العرب فينظرون إلى خيبتهم بموقفَين متناقضَين، بعضهم يضع يده على خدّه حيرةً وعجزاً وحسرةً، وبعضهم الآخر أبلهُ يصفّق.
ماهر أبو المجد
صحافي وكاتب يمني.