
دمشق وموسكو... القاعدتان مقابل العقوبات الدولية
الرأي الثالث
المباحثات بين السلطات السورية وروسيا لا تزال جارية بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين، واستمرار عمل قاعدتي حميميم الجوية قرب اللاذقية، وطرطوس البحرية.
واستقبلت دمشق في نهاية الشهر الماضي نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، أحد مهندسي العلاقات الثنائية في الفترة الماضية، وهو سفير أسبق في العاصمة السورية. وجرت مباحثات شملت العديد من الملفات التي تهم الطرفين.
وعلى عكس التقديرات الغربية، فإن الأجواء لم تكن متوترة، وتحلّى الطرفان ببراغماتية، على الرغم من الخلافات الحادة.
كما أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصالاً مع الرئيس السوري أحمد الشرع، أمس الأربعاء، تمنّى خلال بوتين للشرع النجاح في خوض المهمات التي تواجه القيادة الجديدة للبلاد، لصالح الشعب السوري "الذي تربطه بروسيا علاقات صداقة وتعاون مفيد متبادل على مر التاريخ"،
وأكد دعمه "وحدة الأراضي السورية". ووجّه الرئيس الروسي، خلال الاتصال، دعوة لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لزيارة روسيا.
وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة قدّم، الأسبوع الماضي، تفاصيل مهمة عن تلك الجولة.
وقال في حديث مع صحيفة واشنطن بوست إن سورية منفتحة على السماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها الجوية والبحرية على طول الساحل السوري طالما أن أي اتفاق مع الرئاسة الروسية يخدم مصالح البلاد ويحقق المكاسب.
بين دمشق وموسكو... شروط ومطالب
قدّم كل من الطرفين رؤيته وحدد شروطه من منظور ما يطمح إليه من مصالح، ومن الجانب الروسي تكمن الأهمية الاستراتيجية التي قامت عليها القاعدتان الجوية والبحرية في تحقيق قدر من الردع النووي على طول الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (ناتو)،
لكن اهتمام موسكو بالقاعدة البحرية في طرطوس تراجع كثيراً خلال مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا، بسبب الضرر الكبير الذي تعرض له أسطولها العسكري في معارك شبه جزيرة القرم، ومنها غرق الطراد موسكفا في البحر الأسود بعد تعرضه لهجوم أوكراني في إبريل/ نيسان 2022.
وتعد تلك الخسارة كبيرة كون الطراد كان قادراً على توفير حماية جوية متنقلة بعيدة المدى لكامل أسطول البحر الأسود، وكان مركز قيادة وسيطرة عائماً.
وتركت خسارته الأسطول الروسي هناك أكثر انكشافاً، خصوصاً ما يتعلق بالمهام الأبعد مدى في البحر الأسود، وصولاً إلى الساحل السوري للبحر المتوسط.
بقيت قاعدة حميميم تحتفظ بدورها وزادت أهميتها تبعاً للتطورات في سورية خلال الأعوام الأخيرة وتداعيات حرب أوكرانيا على علاقة قوات "فاغنر" بالجيش السوري، كون القاعدة تضم عدة آلاف من الجنود والمقاولين الروس،
وتشكّل مركز القيادة والسيطرة. وبين ديسمبر/ كانون الأول 2019 وأغسطس/ آب 2020، جنّدت "فاغنر" آلاف المرتزقة من سورية، من خلال أكثر من 12 شركة أمنية خاصة، للقتال في ليبيا ضد حكومة طرابلس المدعومة من تركيا، إلى جانب اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
وبرزت أهمية هذه القاعدة بشكل كبير لدى الكرملين عندما منع الجيش الروسي "فاغنر" من السيطرة عليها كإجراء من أجل تقويض إمبراطورية زعيمها يفغيني بريغوجين العالمية، عندما قام بتمرده في يونيو/ حزيران 2023،
وفي حينه داهمت الشرطة وجهاز الأمن الفيدرالي مقر المجموعة، وأغلقت الشركات التابعة لها،
وذكرت تقارير أن قادة "فاغنر" في حميميم تلقوا إنذاراً، وطُلب منهم توقيع عقود جديدة مع وزارة الدفاع، أو العودة إلى ديارهم.
ولوحظ على مدى الشهرين الماضيين أن عدداً من طائرات النقل العسكرية الروسية أقلعت من القاعدة باتجاه ليبيا إلى قواعد "فاغنر" في مناطق سيطرة خليفة حفتر، وقد بقيت هوية العسكر الذين تم نقلهم سراً،
ولم تتسرب معلومات مؤكدة تفند الشائعات التي قالت إن من بينهم ضباطاً كباراً من جيش وأمن نظام الأسد الذين رفضوا التسويات.
لم تتسرب تفاصيل كثيرة عن المقابل الذي طلبته دمشق من موسكو لاستمرار عمل القاعدتين، وحتى طلب استرداد بشار الأسد، اختلفت من حوله الروايات وتضاربت.
لكن مصادر سورية في دمشق تفيد بأن الإدارة الجديدة طلبت من روسيا تسليم المسؤولين الفارين، ولكن بوغدانوف لم يقدّم إجابة نهائية، بل أراد أن يتأكد من أن هؤلاء سوف يحصلون على محاكمات عادلة،
الأمر الذي تم تفسيره من قبل مراقبين بأن موسكو ليست لديها مشكلة في تسليم الكثير من الضباط، ولكنها ليست في وارد تسليم الأسد، الذي منحته حق اللجوء الإنساني.
الهدف الثاني لدمشق هو استعادة مليارات الدولارات التي تم نقلها إلى روسيا، سواء من قبل الأسد أو من المسؤولين العسكريين والأمنيين الذين فروا إلى هناك، وهذه مسألة لا تقل تعقيداً عن تسليم الأسد.
ويرجح مراقبون أن موسكو سوف تحصل على حصة من الأموال التي نقلها الأسد وجماعته، وهي بحاجة إلى ذلك في ظل ما تعانيه من عقوبات غربية على تصدير منتوجاتها.
كما أن جزءاً مهماً من ديونها على دمشق في الأعوام الأخيرة كان غرضه تثبيت نظام الأسد، وهي تدرك أن الحكم الجديد ليس في وارد تسديدها،
بل على العكس، هناك رأي عام سوري يطالب برفع دعاوى ضد روسيا أمام المحاكم الدولية، لطلب تعويضات مالية عن الأضرار التي ألحقتها بالعمران والبنى التحتية منذ تدخّلها عسكرياً عام 2015.
الهدف الثالث هو كسب تأييد روسيا في الأوساط الدولية، وخصوصاً في مجلس الأمن، وذلك في عدة قضايا تتعلق برفع العقوبات الدولية، وممارسة الضغط عبر الأمم المتحدة من أجل احترام إسرائيل القانون الدولي والاتفاقات الخاصة بفصل القوات،
وبالتالي الانسحاب من الأراضي السورية التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي.
الهدف الرابع هو إمكانية الحصول على سلاح روسي متطور، في حال تعذر ذلك من دول غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا،
وقد يقود ذلك إلى اتفاقات ذات طبيعة دفاعية على المدى المتوسط، ريثما يتم تدريب الجيش الجديد على الأسلحة الغربية، التي تطمح الحكومة السورية للحصول عليها من الولايات المتحدة وأوروبا وتركيا.
لا رضى أميركياً وأوروبياً
بناء علاقات سورية روسية جيدة لا يحظى برضى أميركي أوروبي، وقد جرت إثارة هذه المسألة خلال الزيارات التي قامت بها وفود أميركية وأوروبية إلى دمشق خلال الشهرين الأخيرين.
وصرحت رئيسة الوفد الأميركي بربارا ليف بعد لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع، بأنها أبلغته بمعارضة واشنطن قيام علاقات جيدة بين دمشق وموسكو،
واشترطت تحسن العلاقات بين دمشق وواشنطن بإنهاء الوجودين الروسي والإيراني في سورية. وعلى المنوال ذاته جاءت تصريحات الوفود الأوروبية، خصوصاً وزيري خارجية فرنسا وألمانيا.
وبدت فرنسا مهتمة على نحو خاص بإنهاء الاتفاقية الخاصة بقاعدة حميميم التي شكلت رأس جسر روسي للوصول إلى مناطق نفوذها السابقة في أفريقيا،
وتدرك باريس أن التسهيلات اللوجستية التي تمتعت بها روسيا في هذه القاعدة هي التي سهّلت مهمة إسقاط الأنظمة الموالية لها في أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو والنيجر،
وهي تعوّل على أن إغلاق هذه القاعدة يصعّب مهمة "فاغنر" في تلك البلدان.
تفاوض الحكومة السورية روسيا على هذه الشروط، ومن خلال ذلك ترسل رسائل إلى الولايات المتحدة وأوروبا، فحواها أن التشدد في قضية العقوبات الدولية يكبّل دمشق ويمنعها من إدارة الظهر لقوة دولية كبرى مثل روسيا،
لكنها لا تمانع في صفقة تقايض فيها إغلاق القاعدتين برفع العقوبات الغربية، من دون أن يسقط من حسابات القيادة السورية ما تتحمله موسكو من فواتير ترتبت على دعمها نظام الأسد عسكرياً، وإلحاق دمار كبير وقتل آلاف السوريين.