
الأنظمة العربية إذ تتذكر شعوبها
هذه لحظة نادرة في التاريخ العربي الحديث، إذ تختبئ الأنظمة الحاكمة وسط شعوبها من الغطرسة الفاضحة للرئيس الأميركي الغارق في أوهامه الكولونيالية وهو يسلك مع الحكّام العرب، بوصفهم مجموعة من قطع الدومينو يحرّكها كيف يشاء في الوقت الذي يريد.
جيّد، بل مطلوب أن يدرك الحُكّام متأخرين أنّ هناك رئيسًا في اللعبة يمكنه أن يضبط المعادلة، لكن المفارقة هنا أن مسوّغات قبول هذه الأنظمة لدى الحاكم بأمر المنطقة والكوكب كانت دومًا قدرتها على قمع شعوبها وسحقها على نحو يخرجها تمامًا من معادلات القضية المحورية والوجودية لها، وهي فلسطين المحتلة، الجرح النازف من جيلٍ إلى جيل.
على مدار 15 شهراً من جريمةِ العدوان الصهيوني الأميركي على الشعب الفلسطيني في غزّة كانت الشعوب العربية تُحاول انتزاع مساحات للحضور في معادلات المعركة،
وكانت الأنظمة الحاكمة تقمع هذه المحاولات الشعبية وتجهضها وتسجن مرتكبيها وتطاردهم في الشوارع والميادين،
ولا تزال أعداد كبيرة من الجماهير حبيسة الزنازين بتهم تتعلّق بدعم صمود الشعب الفلسطيني المقاوم.
هذه المعطيات تجعل قفز الأنظمة الحاكمة، التي تتلقى إهانات يومية من واشنطن وتل أبيب، على هتاف الجماهير وانتحال شعاراتها شيئًا أقرب إلى النكتة السياسية، تقف أمامها الجماهير في حيرةٍ كبيرة من استدعائها المُفاجئ للاصطفاف الوطني والكفاح ضدّ العدو الأميركي الإسرائيلي، وهي العملية التي تنشط فيها أبواق لطالما رمت المقاومة وجمهورها بكلِّ قبح وبذاءة.
حسنًا، لنأخذ الأمر على أنها استفاقة أو صحوة ضمير من الأنظمة دفعتها لاكتشاف أنّ صوت الشعوب هو الأصدق، وأنّ الجماهير المقموعة كانت على حق،
غير أن ذلك كلّه يبقى انتحالًا واستغلالًا وقتيًّا لمشاعر شعبية صادقة ما لم تقطع هذه الأنظمة خطوات على طريق الاعتذار لشعوب مهمّشة ومقموعة من خلال إجراءاتٍ عملية تزيح المظالم الواقعة عليها وتتعامل مع الشعوب على أنها مجموعات من المواطنين الأحرار، لا قطيع يسرح في مراعي الدولة التي ترى الجماهير طوال الوقت عبئًا على كاهلها وتشكو منها إذا تزوّجت وأنجبت،
وإذا تألمت من إجراءاتٍ أمنية واقتصادية تكوي ظهرها وتمتهن كرامتها.
لا يستقيم عقلًا أن تحتمي السلطة بشعب أنهكته بحرمانه من حقوقه في حرية السفر وحرية التعبير والاحتجاج على ما يراه ظلمًا، وأن تطلب من هذا الشعب أن يلبسها ثوب البطولة لأنها قرّرت أن تختبئ خلفه،
فالبطولة الحقيقية لها مواصفات، لخّص بعضها الأديب الكبير الراحل يوسف إدريس في سطور ضمن قصته "أنا سلطان قانون الوجود" فكتب: "البطولة قيمة، ولا بد أن تُوجد وسط محصول وافر من القيم. لا مجد للبطولة، بلا مجد للكرامة، بلا مجد للنبوغ، بلا مجد للشرف، بلا مجد للعمل الصالح. وأيضًا لا توجد البطولة، بلا جو عام تُلعن فيه اللا بطولة. تُجتث كالحشائش الضارة منه، وتُجتث معها حشائش سامة أخرى كالجبن كالتفاهة كالنفاق كالكذب".
والحال كذلك، من الواجب أن تدرك الأنظمة التي تريد أن نصدّق أنها في طور الاستفاقة، المقدمات التي أوصلتنا لهذه الحالة من الهوان، وأن تعرف أننا ندفع ثمن خطيئتها بتصنيف المقاومة إرهابًا، وقبل ذلك ندفع ثمن تكريس فكرة أنّ السلام كما تتمناه إسرائيل هو الخيار الاستراتيجي الوحيد للعرب، بينما للعدو ألف خيار، وأولها حروب الإبادة، باختصار ندفع ثمن استرخاص حياة شعوبنا، فيما تشتعل العواصم العربية نشاطًا من أجل حياة أسرى العدو.
جيّد أنهم يستعيدون ذاكرة الشعوب، فليمنحوا هذه الشعوب حقوق البشر، وليعتذروا عمّا ارتكبوه من فظائع ضدّها، وليراجع كلّ طرف نفسه ومواقفه، مع الوضع بالاعتبار أنّ أوّل ما يستحق الاعتذار هو "طوفان الأقصى" الذي حرّر الإنسان العربي من عجزه وضعفه،
وأوّل من تجب عليه مراجعة الذات هي الحكومات العربية التي برّر بعضها عجزه وخذلانه بأنّ المقاومة فعل اعتداء، فيما قرّر بعضها الآخر الاصطفاف الكامل مع الموقف الأميركي، الذي هو بالضرورة صدى للصوت الإسرائيلي.
كلّ معطيات اللحظة الراهنة تقول إنه لم يعد ثمّة أحد لفلسطين إلا الشعوب العربية، فلتصطف الجماهير خلف فلسطين، لا خلف حكّام لم يتذكروا فلسطين إلا حين أرهقتهم وقاحة السيد الأميركي، فإن صادف أنّ هذا الاصطفاف وجد من الحكّام من يُنسب إليه فلا بأس، مع مراعاة أنّ الاصطفاف ضدّ العدو لا يجبّ ما قبله من كوارث ولا يمنح شهادات براءة لقتلة وفاشيين ولصوص أوطان ومتقمّصي أدوار.
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري