الاعتياد على الظلم في اليمن يحوله إلى واقع مألوف
أعتقد أنه في الأزمنة التي تنحدر فيها الدولة من كونها إطاراً ضامناً للحق إلى مجرد حضور شكلي، تتعرض العدالة لأخطر أشكال التشويه: أن يستبدل معناها الأخلاقي بواقع يومي يعيد تعريف المألوف وفق منطق القوة لا منطق القانون، فحين تفقد المجتمعات القدرة على الإحساس بغياب العدل، يتآكل الوعي الجمعي من الداخل، ويتحول الظلم تدريجاً إلى جزء من النظام الطبيعي للأشياء.
وفي السياق اليمني على نحو خاص، تبدو أزمة العدالة ليست عارضاً سياسياً، بل جرحاً بنيوياً يشق حاضر المجتمع ومستقبله، فالاعتياد على الظلم، سواء عبر مؤسسات عاجزة أو سلطات متغولة، لا يدمر ثقة الفرد في الدولة وحسب، بل يعيد في اعتقادي صياغة تصور المجتمع لذاته وللعلاقة بين الحق والقوة.
إن تحول اللامبالاة إلى فضيلة واقعية يجعل من مقاومة الظلم فعلاً استثنائياً بدلاً من أن يكون واجباً بديهياً، وهكذا يصبح السؤال الملح: ماذا يتبقى من فكرة الدولة حين تصبح العدالة، وهي شرط وجودها الأول، مجرد حلم يواجه واقعية حياة تعيش على الأزمات؟
إن هذا السؤال في هذا النص هو المدخل الضروري لفهم اللحظة اليمنية الراهنة في مشهد معقد يقوم على صراعات لا تريد أن تنتهي، وما تكشفه من هشاشة بنيوية باتت تهدد الأساس الأخلاقي للعيش المشترك.
أتصور أن من بين كل ما يميز الدولة ويجعلها أكثر من مجرد كيان سياسي أو سلطة قائمة، تبرز "العدالة" باعتبارها الفكرة التي تمنح الوجود الجمعي معناه وتضفي على القانون شرعيته، لا شيء يضاهي العدالة،
فهي كما أرى ليست إجراء إدارياً أو نصاً قانونياً فحسب، بل هي تعبير عن وعي أخلاقي عميق يجعل من المساواة قاعدة ومن الإنصاف معياراً،
وفي اللحظة التي يغيب فيها العدل أو يختزل إلى نصوص بلا قوة، يتصدع جوهر الدولة ذاته، ويتحول حضورها في الوعي العام إلى مجرد صورة باهتة فاقدة للثقة.
لذلك، لا تقاس قوة المجتمعات بقدرتها على إنتاج القوانين فحسب، بل وبقدرتها على جعل هذه القوانين فعلاً حياً يحمي الأفراد ويعيد إنتاج المعنى الحقيقي للمواطنة.
فضلاً عن ذلك، يفترض بالقضاء أن يكون الملاذ الأخير للإنسان حين تضيق به سبل الإنصاف، فهو المرآة التي تعكس حضور الدولة بوصفها سلطة تحتكم للقانون وتحتضن العدالة باعتبارها قيمة عليا، وحين تستقيم السلطة القضائية على نحو مستقل،
فإنها لا تنصف الأفراد فحسب، بل تؤسس أيضاً لثقة جمعية تعزز من معنى المواطنة، وتجعل من فكرة الدولة ذاتها إطاراً ضامناً لحقوق الناس وواجباتهم، غير أن هذا الافتراض يظل في مجتمعات مأزومة، مجتمعات تائهة في صراعات لا تريد أن تنتهي، أقرب إلى مثالية بعيدة المنال منه إلى واقع قائم.
في اليمن، وتحديداً في محافظة عدن والمحافظات المجاورة لها، تغيب هذه القاعدة المؤسسة، أما في المناطق الواقعة تحت سيطرة الميليشيات الحوثية المنقلبة على الدولة بقوة السلاح فعلى المرء ألا يتجرأ ويفكر في شأنه فالأمر أسوأ بكثير وأعقد،
فالمواطن، وهو يشهد على واقع يتآكل فيه حضور الدولة، لا يجد في القضاء باباً مشرعاً للإنصاف، بل يراه أحياناً امتداداً لعجز الدولة أو انعكاساً لانقسامها أو للاثنين معاً.
وانعدام الثقة هنا، في تصوري ليس وليد نزوع فردي أو شعور ذاتي، بل نتيجة تراكمية لصورة قضاة نزيهين، وإن كانوا قلة، لا يملكون سلطة إنفاذ أحكامهم، وأجهزة تنفيذ غائبة أو متواطئة، مما يجعل الطريق إلى العدالة محفوفاً بالخذلان منذ بدايته.
في اعتقادي أن الأحكام القضائية التي تظل حبيسة الأدراج أو حبيسة الأوراق لعدم وجود القدرة على إنفاذها على الأرض تفضح مفارقة عميقة: وجود بعض عدالة على الورق يقابله غياب عدالة مستفحل في الواقع.
هذه المفارقة المريرة لا تعني فقط فشل المؤسسات التنفيذية في القيام بمهامها، بل وتكشف أيضاً عن علاقة ملتبسة بين الفساد والسلطة، حيث تتحول أجهزة يفترض بها أن تحمي الحق إلى جزء من منظومة تعصف بالحق ذاته،
هنا، يصبح إنفاذ القانون رهينة قوة غائبة أو إرادة مصادرة في مقابل وجود (كيانات) أو (أفراد) يضعون أنفسهم فوق مستوى القانون نفسه، ويجاهرون بذلك، ومن ثم يغدو العدل غائباً أو مؤجلاً إلى أجل غير معلوم.
في هذا السياق الصادم، المشار إليه أعلاه، تبرز أهمية ما قاله أرسطو: "العدل هو الإنصاف، والظلم هو تفضيل شخص على آخر على غير أساس من الحق"،
فإذا كان القانون عاجزاً عن تجسيد هذه المعادلة البسيطة، فإنه يفقد معناه ويتحول إلى نصوص خاوية لا تملك القدرة على إحداث أثر.
في الواقع إن غياب العدل الواقعي لا يعري المؤسسات فحسب، بل ويضرب في الصميم شرعية الدولة التي لا تستقيم إلا بقدرتها على أن تكون ضامنة للإنصاف.
الأدهى من ذلك أن هذا الواقع الصادم والمحبط في آن، على رغم من خطورته، فإنه لا يحظى بالاهتمام الكافي من الفاعلين المستقلين في السياسة والثقافة والإعلام في هذا البلد المغلوب على أمره، وكأن الصمت إزاء مأساة العدالة المعطلة يكرس قبولاً ضمنياً باستمرارها،
غير أن تداعيات هذا الصمت تتجاوز اللحظة الراهنة، إذ إنها في اعتقادي تعيد صياغة وعي المجتمع على أساس من اليأس واللامبالاة، وترسخ، على نحو ما، صورة دولة عاجزة لا تحمي مواطنيها، وهو مسار، إن استمر، سيجعل من الأزمة القضائية في اليمن ليست مجرد مسألة قانونية، بل هو مأزق وجودي سيلقي بظلاله على أجيال قادمة.
إن خطورة الأمر في تصوري لا تكمن فقط في عجز الدولة عن حماية مواطنيها، بل في أن المجتمع نفسه يتكيف مع هذا العجز، وهنا تبدو مقولة ألبير كامو ذات دلالة: "اللامبالاة هي أسوأ أنواع الشر"، فالاعتياد على الظلم يحوله إلى واقع مألوف، ويجعل من مقاومته فعلاً استثنائياً بدلاً من أن يكون واجباً أصيلاً، وهذا ما يفتح الباب واسعاً أمام تآكل المعنى الجمعي للعدالة، وتحولها من قيمة مؤسسة إلى أمنية بعيدة المنال.
وعليه، فإن المسألة ليست مجرد نقاش قانوني أو إداري، بل أزمة وجودية ترتبط بقدرة المجتمع على إعادة إنتاج ذاته عبر دولة تمتلك مؤسسات فعلية. فإذا استمر العجز عن حماية القضاء بوصفه ميزان الدولة، فإن فكرة الدولة ذاتها ستظل هشة، ويظل مصير اليمن مرهوناً بدوام هذا الفراغ، إن العدالة، في نهاية المطاف، ليست مطلباً مؤجلاً، بل شرطاً أولياً للعبور نحو المستقبل.
بعبارة أخرى أدق وأوضح، إن القضاء في جوهره ليس مؤسسة تقنية فحسب، بل هو المعيار الذي يختبر من خلاله المجتمع صدقية الدولة وعمق التزامها بالإنصاف،
وإذا كان انهيار الاقتصاد يرهق الجسد، فإن انهيار العدالة يفتك بالروح الجماعية ويقوض المعنى نفسه للعيش المشترك.
من هنا، فإن معركة اليمنيين ليست فقط مع استعادة مؤسسات غابت، بل مع إعادة بناء ثقة فقدت ومعنى تلاشى، فالعدالة في تصوري ليست امتيازاً يمكن تأجيله، بل هي الشرط الضروري الذي من دونه لا يكون المستقبل سوى تكرار دائري للأزمة ذاتها، وعليه يتبدى السؤال الأعمق: أي وطن يمكن أن يقوم على أرضية لا تستقيم فيها موازين الحق والإنصاف؟
إن أخطر ما يواجهه اليمن اليوم ليس فقط غياب العدالة كقيمة مؤسسة للدولة، بل تحول هذا الغياب إلى قدر مألوف يتكيف معه الناس حتى يفقدوا القدرة على استشعاره ككارثة، أن يغدو "الظلم" طبيعة ثانية، و"العدالة" مجرد وهم، و"الدولة" محض صورة بلا روح.
سامي الكاف
صحافي وكاتب يمني