
جدلية الدين والدولة في اليمن !
لا يمكن اختصار الطريق الى الحكمة سوى باختصار الكلام، ولو استطاع الناس تنظيم شؤون حياتهم وفقاً لخطة مرسومة لما وقعوا فريسة للخرافة وسطوة الكهنة والاحبار، منذ قرون والبشرية تدفع ثمن المفاهيم الخرافية للذين يستخدمون الدين والتدين في خدمة أغراض دنيوية وسياسية وحتى شخصية … وقد احتاج الغرب الى سنوات طويلة من الحروب والصراعات حتى تحرر من تلك الخرافات ومن سطوة الكنيسة والكهنة والاحبار وغيرهم من مرتزقة الاديان. و في عصر النهضة برز العديد من الفلاسفة الذين كرسوا سيطرة العلم و وضعوا اسس الدولة المدنية ، و انتقلت البشرية الى عصر التنوير متجاوزة مراحل مظلمة لتصل الى الحقبة المعاصرة التي تم فيها اختراق الفضاء ، واصبحت التكنولوجيا وسيلة لربط العالم ببعضه البعض ، فالإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه ، وكرمه ، و منحه تلك المكانة العالية والمميزة في الكون لا يمكن ان يكون عاجزا عن ايجاد القوانين والتشريعات المناسبة والمتطورة لتسيير شؤون حياته و تحقيق التعايش الراقي ، وما توصلت اليه الامم الاوربية بعد حروب طويلة وحربين عالميتين من تعايش وتفاهم وبناء المصالح المشتركة لم يأت من فراغ بل كان نتيجة وعي نقدي وتحرر فكري وتقدم علمي على خلفية فصل الدين عن الدولة. ونحن نعيش ضمن هذا العالم وعلينا ان نتعلم من تجاربه ونكمل المشوار من حيث انتهى وليس من حيث ابتدأ، ولكنَّنا نشهد للأسف وقوع معظم من وصلوا الى السلطة في وطننا العربي في مأزق يبلغ من الحرج ما لا يستطيعون منه خلاصا ، لحرصهم الشديد على النِّعم الزائلة التي جلبها لهم القدر…. وفي اليمن موضوع هذا المقال لا يمكن انكار الدور السياسي والاجتماعي الذي قامت به جميع القوى الوطنية والاحزاب التقدمية التي خاضت مراحل طويلة من النضال والتجارب الوطنية والقومية والدولية واكتسبت العديد من الخبرات اثناء مقارعتها للأنظمة الدكتاتورية والاستعمارية وحتى وصولها الى السلطة التي اكسبتها معرفة بإدارة الدولة، وتابعت واستفادت من تجارب الشعوب، وتوصلت الى قناعة كاملة بان بناء الدولة لا يتم الا بالشراكة الوطنية في دولة مدنية يسودها العدل والحرية و يتعايش تحت رعايتها كل ابناء الوطن بمختلف توجهاتهم، وفي هذا الاطار كان نضالها للانتصار لمظلومية ابناء الوطن وخاصة ابناء الجنوب وصعدة والمناطق الساحلية وغيرها، ورفض تسيد حزب او فصيل او جماعة دينية او قبلية.
كان انصار الله فريقا اساسيا في الحوار الوطني و في بناء الدولة ، و استشهد هنا بما أكده الشهيد البروفيسور احمد شرف الدين من أن ” السبب الرئيس الذي أوصل اليمن إلى ما وصل إليه هو ” مثلث ” له ثلاثة أضلاع ..
ضلع القوى الدينية، وضلع القوى القبلية، وضلع القوى العسكرية ..
ثلاثة أضلاع تحالفت فيما بينها وأوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.
لم تكن المشكلة مشكلة قانونية بشكل كبير، لأنه كان لدينا دستور فيه الكثير من المكاسب ، ولدينا قوانين منظمة لكثير من الأمور التي يمكن أن نتحدث عنها، لأنه كان موجوداً لدينا إلى حد ما نظام مؤسسي من الناحية القانونية، لكنه في التطبيق العملي كان غائباً، فكان هذا الثلاثي هو المتحكم في اليمن، وبقي الدستور بعد ذلك والقوانين حبرا على ورق.
و سوف اركز هنا على الضلع الاول الديني لأنه الاهم ومحور حديثنا وهو الذي يقول فيه:
” عندما نتحدث عن معالجة ضلع القوى الدينية، ليس معنى ذلك أننا لسنا متدينين، نحن متدينون ربما أكثر منهم، وحِرصنا على الدين ربما أكثر منهم، ولكن الدين قد استخدم استخداماً سيئاً في الفترة الماضية، وكان يسندهم في ذلك نصوص موجودة في الدستور وفي القانون.
نحن الآن فيما يتعلق بضلع القوى الدينية نريد أن نبني دولة بشكل آخر، نريد أن نبني دولة مدنية يغيب عنها الخطاب الديني بمعنى أن الدولة لا تتبنى الخطاب الديني، الدولة لا ترفع الخطاب الديني في مواجهة الشعب، ان الدين يكون للشعب ، أما الدولة فليس لها دين، لأن الدولة عبارة عن شخص معنوي، وهذه جدلية خاض فيها المفكرون كثيراً ولكنهم لم يصلوا إلى نتيجة بشأنها. نحن الآن نطرح هذه الجدلية من جديد، ونقول أن الدولة في العصر الحاضر دولة ينبغي أن تتخلص عن الخطاب الديني، لماذا؟
لأننا قد جربنا الدولة الدينية على مدار مئات السنين، وكانت الدولة عندما تتبنى الدين تعممه في صورة مذهب معين وتلغي المذاهب والأفكار الأخرى، ونحن نعرف أن مصطلح الصراع الذي حصل بين المسلمين كان سببه الدولة الدينية، فأنت عندما تبني دولة دينية سيأتي القائمون على هذه الدولة ويبنون خطاباً من وجهة نظر معينة، فلا يكون الطرف الثاني موافقاً عليها، فتبدأ الصراعات، وهكذا على مدار القرون الماضية، و كلها صراعات مستمرة لهذا السبب، لأن الإسلام كما نعرف له قراءات متعددة وليس قراءة واحدة في جانب المعاملات وجانب العبادات، فما بالكم في الجانب السياسي.”
اذن نحن بحاجة لدولة مدنية ليس لها دين كونها شخص معنوي دينها القانون فقط ، وعندما نقول دولة مدنية يعني دولة علمانية يحكمها النظام والقانون ، وموضوع العلمانية الذي يصوره الدينيون بانها الحاد وكفر هو امر فيه تضليل كبير ،فالعلماني ليس ضد الاسلام ولا ضد المسيحية ولا ضد اي دين ، بل على العكس فان العلمانية مرحلة رفيعة من الايمان بالقيم والاخلاقيات والتعايش والقبول بالآخر واحترام القوانين والاديان وهي مرحلة عليا من النضوج الفكري.
خلاصة القول : لا تربطوا الخلافات السياسية بالدين و ليست الدولة معنية بإدخال شعبها الجنة او سوق من تمرد عنها الى النار.. الدولة معنية بفرض النظام والقانون وتحقيق الامن والاستقرار للشعب وليس من مهام رجل الدولة ان يتهم من اختلف معه في الرأي بانه معاد للدين ، او ان يقول انه يجب اقصاء العلمانيين وهو في واقع الامر لا يعرف ماذا تعني العلمانية.
نحن في هذا المقام ناصحون وليس لنا مشكلة شخصية مع اي مكون ، وكما كنا شركاء ، وما زلنا نحافظ على تلك الشراكة ، ولكن في بناء الدولة المدنية ، فاليمن لكل اليمنيين وليس حصراً لجماعة معينة مهما كانت هويتها الدينية والسياسية ، ومرحلة التضليل واستخدام العواطف الدينية انتهت فعالم اليوم يعيش في قرية واحدة والمعلومات المختلفة تصل الى كل فرد ولا يحتاج الانسان الا لحالة تبصر وادراك ليميز الخبيث من الطيب.
أ. نايف القانص - سفير يمني