هل يفلت الاقتصاد العالمي من عواقب اتساع الحرب؟
وفقاً لأحدث بيانات صندوق النقد الدولي، يشهد الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي أداءً ضعيفًا نتيجة مجموعة من العوامل، كانت في مقدمتها السياسات النقدية المتشددة، وتراجع التجارة العالمية، وتباطؤ الاقتصاد الصيني، ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، بالإضافة إلى عدم اليقين المحيط بنتيجة الانتخابات الأميركية المقبلة.
وفي ظل هذه الظروف، توقعت بعض مراكز الأبحاث أن تصعيد المواجهات العسكرية في الشرق الأوسط سيكون من شأنه زيادة حالة عدم اليقين، ما يؤدي إلى عرقلة جهود السيطرة على التضخم وتقليص النمو الاقتصادي العالمي بشكل أكبر.
وبعد عام شهد شن دولة الاحتلال حرب إبادة على سكان غزة، توسعت المواجهات لتشمل الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، بالإضافة إلى الضربات الجوية المتبادلة بين إيران وإسرائيل، ما زاد من المخاوف من اتساع نطاق الحرب وتفاقم تأثيراتها الاقتصادية العالمية.
وتسبب التصعيد في المواجهات في زيادة حالة عدم اليقين الجيوسياسي، وشهدت مؤشرات المخاطر الجيوسياسية ارتفاعًا حادًا عقب اندلاع المواجهات في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث سجل مؤشر المخاطر الجيوسياسية (GPR)، ومؤشر الأعمال الجيوسياسية (GPRA)، مستويات أعلى من تلك التي شهدها العالم عند وقوع هجمات داعش في باريس عام 2015. وعلى الرغم من تراجعها في الأشهر التالية، ارتفعت المؤشرات مجددًا بعد الهجوم الإسرائيلي على جنوب لبنان الشهر الماضي.
وحتى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2024، بقيت مستويات المخاطر الجيوسياسية أعلى من متوسطاتها التاريخية بنسبة 21% و35% على التوالي. وقال محللو الاقتصاد إن ارتفاع المخاطر الجيوسياسية يرتبط بارتفاع أسعار النفط، وانخفاض الاستثمار العالمي، وزيادة التضخم،
وقالوا أيضا إن التأثير السلبي على ثقة الأعمال والمستهلكين يؤدي إلى انخفاض الإنفاق، حيث يميل المستهلكون إلى تقليص الإنفاق غير الضروري، وتؤجل الشركات قرارات الاستثمار، ما يؤدي إلى تراجع الإنفاق الاستثماري على مستوى الشركات، خاصة تلك التي تتطلب استثمارات كبيرة لبدء أعمال التطوير لديها، أو تلك التي تتمتع بحصة سوقية كبيرة.
وفي تقرير حديث نشره الأسبوع الماضي، نقل موقع المرصد الاقتصادي economics observatory عن بعض الاقتصاديين توقعهم تسبب تصاعد المواجهات في الشرق الأوسط في تأثيرات تضخمية على أسعار الطاقة، من خلال تخفيض إنتاج النفط وزيادة حالة عدم اليقين، إلى جانب تأثيره المباشر على المخاطر الجيوسياسية.
وأشار الاقتصاديون إلى أن منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، قد تتجه لتقليل الإنتاج باعتباره إجراء عقابيا ضد الدول الداعمة لإسرائيل، كما حدث في سبعينيات القرن الماضي، مع اندلاع حرب أكتوبر المجيدة، ما أدى إلى قفزة كبيرة في أسعار النفط، ساهمت وقتها في تضخم عالمي مستدام وركود اقتصادي في العديد من الاقتصادات الكبرى.
ورغم ضعف احتمالات تحقق هذا السيناريو، يبقى احتمال أن تشهد سوق النفط اضطرابات كبيرة طالما استمرت الحرب.
وقبل الهجوم الإسرائيلي على لبنان، كانت أسعار النفط تتراجع بسبب انخفاض الطلب، لا سيما من الصين، وزيادة الإنتاج في كندا والولايات المتحدة. ومع ذلك، تغيرت الأمور بسرعة بعد الهجوم، حيث قفزت أسعار النفط بنحو عشرة دولارات للبرميل خلال أسبوع واحد قبل أن تنخفض لاحقًا بأكثر من سبعة دولارات للبرميل.
ومع أن التأثير المباشر للهجوم الإسرائيلي قد تلاشى إلى حد كبير، إلا أن خطر ارتفاع أسعار النفط والغاز لا يزال يمثل تهديدًا للتضخم والنشاط الاقتصادي العالمي.
وأظهرت خبرة الأشهر الأخيرة أن توسع الصراع في الشرق الأوسط يؤدي إلى زيادة تكاليف الشحن وتعطيل سلاسل الإمداد العالمية، حيث أظهرت هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر في أواخر 2023 التأثير الكبير الذي يمكن أن تحدثه هذه الاضطرابات على التجارة العالمية، التي يتم نقل 80% منها عن طريق الشحن البحري.
وبعد الهجمات الصاروخية من قبل الحوثيين، غيرت بعض السفن التجارية مساراتها من البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح، ما أدى إلى تأخيرات وزيادة في تكاليف الشحن. ونتيجة لذلك، ارتفع مؤشر شحن الحاويات في شنغهاي بنسبة 260% في الربع الثاني من 2024، وهو ما تسبب في اضطرابات في سلاسل الإمداد.
وتشير التحليلات إلى أن زيادة عشر نقاط مئوية في تضخم تكاليف الشحن يمكن أن تؤدي إلى زيادة أسعار الواردات بنسبة تصل إلى 1%، وزيادة التضخم الاستهلاكي في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بنسبة 0.5%. ومن المعروف أن الآثار الكاملة لتكاليف الشحن تظهر على التضخم على مدى ستة أرباع، ما يعني أن آثار تصعيد المواجهات يمكن أن تستمر لمدة عام ونصف، لا في مناطق الحرب فقط وإنما في مختلف المسارات التجارية البحرية حول العالم.
وتشير التوقعات إلى أن البلدان التي ترتبط بتجارة وتعاملات مالية نشطة مع الشرق الأوسط، والتي تعتمد بشكل كبير على واردات النفط باعتبارها مدخلاً للإنتاج المحلي، ستكون الأكثر تضررًا.
وعلى الصعيد النقدي، قد تضطر البنوك المركزية إلى اتخاذ مواقف أكثر تشددًا استجابةً للضغوط التضخمية الناتجة عن توسع الصراع. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة أسعار الفائدة، أو إبطاء خفضها، وهو ما يحد من النشاط الاقتصادي، خاصة في ظل بيئة اقتصادية تشهد بالفعل مخاوف من الركود في بعض الاقتصادات الكبرى.
وعلاوة على التأثيرات الاقتصادية المباشرة، قد يؤدي تصعيد المواجهات في المنطقة إلى نزوح جماعي للسكان، وهو ما يزيد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على البلدان المجاورة. وقد تضطر العديد من الدول إلى زيادة الإنفاق العسكري استجابةً لتزايد التوترات الإقليمية.
وفي ظل ارتفاع مستويات الديون العامة في العديد من البلدان نتيجة للصدمات الاقتصادية المتتالية على مدى العقد الماضي، فقد يأتي أي إنفاق إضافي على الدفاع على حساب الاستثمارات العامة في البنية التحتية، والتي يعتمد عليها عادة في تعزيز معدلات النمو الاقتصادي.
الأبعاد الاقتصادية المحتملة مع توسع المواجهات تقترب من كونها كارثية، وستضيف بالتأكيد لآلام فقدان عشرات الآلاف من الشهداء، في فلسطين ولبنان.