«مراسلو» غزّة الصغار: للموت الفلسطيني صوت وصورة
منذ أكثر من عام، والعالم يُشاهد جزءاً جديداً من الفيلم الأميركيHunger Games (مباريات الجوع) على الهواء مباشرة من دون أن يعي ذلك، بعدما اتفق الغرب المتوحش على تحويل مجازره وجرائمه إلى عروض مرئية تحتضنها شركة «ميتا» الأميركية عبر منصتيها فايسبوك وانستغرام وفقاً لشروطها الخاصة، التي تجبر الأبطال على البقاء سعيدين وتقديم معاناتهم بأقل قدر من الكلمات التي لا تخدش خوارزمية الشركة، تحت طائلة حذف حسابات الأبطال وطردهم من «الفيلم الافتراضي» في حال تنديدهم بشروط «اللعبة». وهذا ما حصل أخيراً مع الصحافي الغزّاوي أنس الشريف، الذي حذفت «ميتا» حسابه على إنستغرام بعد وصول صوته إلى أكثر من مليون متابع ومعدل مشاهدات تجاوز المليار، كعقوبة لتوثيقه جرائم الاحتلال اليومية. تسعى الأنظمة التي تهيمن على عمل منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، إلى جعل الموت الفلسطيني بلا صوت، لكنّ أطفالاً ويافعين وشباباً ولدوا وعاشوا في ذلك الشريط الضيق من العالم الذي عرفناه جميعاً باسم «غزّة»، قرروا أن يضجوا بموتهم وعذابهم، ويقلقوا راحة العالم، بـ«الدق على جدران الخزان» رافضين الاستسلام لمصير شخصيات غسان كنفاني في روايته «رجال في الشمس». لكن مع
تشديد شروط النشر والوصول وتقييد مئات الحسابات، قرر بعض الأطفال الاستمرار في لعبة السوشال ميديا وفقاً لشروطها غير الإنسانية حتى لا يتم كتم صوتهم نهائياً.
هكذا، تمكنت الطفلة ريناد عطالله، من خرق هذا التعتيم، ببسمتها العريضة وعبارتها «حان وقت الحقيقة» أثناء تقديمها محتوى عن الطعام بما يناسب التصنيفات التي تتيحها المنصّات الاجتماعية. ومن مكان إقامتها في إحدى خيم النزوح في رفح، تحرص الشيف ريناد على عدم التأفف من الأحوال المعيشية القاسية التي تكابدها طفلة العشرة أعوام، وتلمّح بذكاء وابتسامة إلى أنّ الموسيقى الخلفية المرافقة لمحتواها ما هي إلّا صوت مسيّرة صهيونيّة تسمّيها «الزنّانة».
مع الوقت، يصبح هذا النوع من المحتوى الترفيهي توثيقاً لنتائج الحصار الذي تمارسه قوّات الاحتلال تجاه العائلات الفلسطينية، وتصويراً لحجم التعب الذي يتحمله الأطفال في القطاع، والأدوار الملقاة على عاتقهم مع توقف التعليم في غزّة منذ أكثر من عام، حيث تعمل ريناد كوجه إعلامي لإحدى المنظمات التي ترسل مساعدات إنسانية غذائية للقطاع.
أمّا صانعة الفيديو إيمان لولو من سكّان جباليا شمال غزة، فتحرص على توثيق يوميات الحصول على الطعام في المخيم، وتقديم الخدمات التعليمية والترفيهيّة للأطفال الآخرين. تمكّنت إيمان من الوصول إلى أكثر من ثلاثة ملايين متابع خلال عام من الإبادة. لكن الإرهاق بدأ يتسلل إلى وجهها الناعم، وقد أشارت في أحد المقاطع أنّ السبب يعود إلى صعوبة حصولها على الطعام في جباليا أو اعتمادها على وجبة واحدة صغيرة في اليوم. والغريب أنّ المنشورات التي توصف فيها المتاعب التي تواجهها ومعاناة أهالي الشمال، تكون الأقل تفاعلاً من الجمهور فيما تحصل صورها وفيديوهاتها التي لا تتضمّن أي كلام يتعلق بالحرب التفاعل الأكبر. وهذا حال صاحب العبارة الشهيرة «والله تعبنا» الطفل عبود نافذ، الذي يجاهد للإبقاء على محتواه إيجابياً رغم النحالة التي بدأت تظهر أكثر فأكثر على ملامحه، إضافة إلى علامات التعب والملل الطفولية من مواصلة تذكير العالم بضرورة متابعة قصته والتعاطف معه.
وفي جباليا أيضاً، تُقدّم سهر المشهراوي مع أخواتها محتوى يؤكد على تمسكهم بأرضهم ورفضهم المغادرة رغم الإبادة التي يتعرض لها المخيم، فيما تبدو سهر أقل مجاملة من باقي أقرانها الناشطين على منصّات التواصل الاجتماعي، إذ لا تتردد في الإجابة عن أسئلة متابعيها، الذين وصلوا إلى أكثر من مليون، بلغة بسيطة لكن مرعبة، فترد «انشالله تكون معنا بالجنة» عندما يكتب أحدهم «أتمنى أن أكون معكم».
وفي رد آخر، تكتب «آسفة النت ضعيف الصبح بنزلو إذا بقينا أحياء» عندما يطلب أحد المتابعين منها تنزيل فيديو جديد لها كتعبير عن الحب والالتزام بمتابعتها. كما حوّل أطفال غزّة الناشطين على إنستغرام عمليات فتح صناديق وكراتين المساعدات إلى «تريند» مناسب للمنصّات من خلال تسمية مقاطع الفيديو الخاصة بها بـ unboxing وهي التسمية التي يطلقها صنّاع المحتوى على عمليات فتح الهدايا والمنتجات التي يتم التوصية عليها عن بعد لتجربتها، أضاف أطفال غزّة إلى العملية فقرة توعوية حيث يتم تقييم فائدة وضرورة بعض المواد الموجودة وما إذا كانت مناسبة لأحوالهم المعيشية واحتياجاتهم أم لا، خاصة في ما يتعلق بفترات الصلاحية الطويلة لبعض المنتجات، أو السخرية من بعض المساعدات القادمة من دول داعمة للاحتلال أصلاً.
سابقاً كان على الطفل أن يبكي قليلاً ليحصل على اهتمام وعطف العالم من حوله، أمّا اليوم، فعلى الطفل الفلسطيني التفكير ملياً بكيفية تقديم موته. مشهد محمد الدرة النازف في حضن والده لم يعد كافياً، والتعاطف لم يعد يتحقق لمجرّد معاناتك أو بمجرد كونك طفلاً يحترق في خيمة أو يجوع في العراء أو يرتعد تحت القصف. لقد أصبح على الطفل الفلسطيني تعلّم لغة «الترفيه» التي لا يعّلّونها في المدارس التي دُمّر أكثر من ثمانين في المئة منها خلال الإبادة التي يشنّها الاحتلال على القطاع.
مرعبٌ هذا المشهد، لكن حقيقي يحدث يومياً على مرأى منا، إذ يضطر الأطفال والمراهقون إلى تحويل أفظع المآسي التي يتعرضون لها إلى محتوى يجذب المتفرجين والمتابعين، حتّى لا يموتوا من دون صوت، وحتّى لا تتحول قصصهم وهوياتهم إلى رقم يُضاف إلى العدد المهول من الشهداء السابقين، بعد اجتماع كلّ قوى العالم «المتحضّر» على أجسادهم وسلبهم الأحبّة والطعام والأحلام والحق في المقاومة وتحرير الأرض وحمل السلاح في وجه قاتلهم.
مروة الجردي