
موت صالة السينما: هل تؤثّر الشاشات المتنوعة في عروض الأفلام؟
في الأصل، ظهر الشريط السينمائي إنجازاً علمياً ناتجاً من تقاطع علوم الفيزياء والكيمياء والبصريات (العدسات وما شابهها).
لم يكن لها في البداية أي تطبيقات فنية إبداعية، تحاكي الآداب والفنون السائدة، من مسرح ورواية وأوبرا وسيرك وتهريج، حتى عام 1894، حين عرض الأميركي تشارلز فرنسيس جنكز، على جهاز فانتو سكوب (Phantoscope)، عرضاً من المسرح، لراقصة فودفيل تؤدّي رقصة الفراشة.
ربما كان هذا الحدث، رغم كثرة الحكايات السابقة واللاحقة عن معنى الشريط السينمائي، إيذاناً بظهور السينما، بمعناها الفني الإبداعي الترفيهي التجاري، بالارتباط بالمسرح أولاً، ثم بفنون التعبير الأخرى،
إذ انتقل مبدئياً جهاز فانتو سكوب، عام 1895، إلى إديسون، المعروف باختراعاته ذات الجدوى التسويقية، ليتحوّل إلى فيتا سكوب. عام 1896، عرض إديسون أفلامه في قاعة موسيقية في نيويورك،
وبدأ تحوّل جهاز نقل الصورة إلى جمهور، كان يدفع ثمن بطاقة دخوله إلى صالات المسارح والموسيقى، فصار منذ ذلك الوقت يدفع أقلّ بكثير ثمن بطاقة دخوله إلى صالة السينما، لأسباب إنتاجية تسويقية، وجمالية ترفيهية.
لكنّ هذا الجمهور حافظ على ممارسة التلقّي الجماعي للفنون، لتصبح الأفلام وحضورها ممارسة اجتماعية ثقافية، أضيفت إليها فكرة الترقّي والتوعية لاحقاً،
ما يعني أنّ الحضور الجماعي للأفلام ضرورة أقنومية، لا تنفصل عن صناعة الفيلم، أو عن الهدف من صناعته تحديداً.
هذا عبّرت عنه أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها في هوليوود، عندما رفضت قبول "الأيرلندي" (2019) لمارتن سكورسيزي من دون عرض تجاري مفتوح للجمهور، فالفيلم أنتجته "نتفليكس"، وعرضته حصراً على منصّتها.
هذه إشارة واضحة من الأكاديمية إلى أنّ الحالة لم تكتمل في هذا "الفيلم" ليُصبح سينمائياً.
مع هذا، يبدو أنّ تحويل المعلومات والمعارف التكنولوجية إلى تطبيقات، التي بدأت بها السينما منذ اختراعها المتدرّج، ظلّ مُستمراً كلّ حياتها العلمية والمعرفية.
هنا، لا بُدّ من النظر إلى مفهوم الشاشة، الذي تطوّر في مناسبات كثيرة.
لكنْ، مع بداية القرن الجديد، الذي مَرّ ربعه إلى الآن، يُنظر إلى تنوّع شديد في شاشات العرض، الفردية والجماعية، فتطرح على المرء أسئلة كثيرة عن جدوى ممارسة هذا النوع من الاستمتاع الإبداعي، عبر شاشة لم تكن بمختلف أنواعها، وإلى زمنٍ قريب، إلا قطعة قماش بيضاء، كبرت أمْ صغرت.
في العالم الثالث والأخير، الذي لم تنضج فيه الحالة السينمائية الاجتماعية، نتيجة تقافزها السريع بالارتقاء، جُمعت الفنون البصرية كلّها في عنوان واحد: الرؤية.
هنا، لا كلام عن تأثير الرؤية انطلاقاً من المحتوى الإبداعي للأفلام (والمسرحيات وعروض الرقص والموسيقى)، بل عن حالة الاستبدال وموت صالة السينما في العالم العربي.
هذه خصلة اجتماعية/ثقافية ذات مدلول أبعد بكثير من مجرّد تلقّي الأفلام والمنتجات البصرية في البيت على شاشة تلفزيون أو كمبيوتر، أو عبر جهاز إسقاط (بروجيكتور)، لا يُعبّر عن مشاهدة أنموذجية، كما في تعليمات الاستخدام،
أي إنّ المُشاهَدة يجب أنْ تكون جماعية في صالة، أو في الهواء الطلق، أو سينما السيارات. فبالإضافة إلى كون هذه المُشاهدة/التلقّي، وليس مجرّد الرؤية، طقساً اجتماعياً يُحرّك الأوصال، فهي ممارسة أيضاً للآراء والمواقف تجاه المعروض،
وأيضاً المُوافقة على حياة فنّ من الفنون، يسعى كلّ مجتمع مرتق إلى إيجادها وإذكائها.
هنا، لا يمكن تجاهل تحوّلات الصالات السينمائية في العالم، إذ أصبحت أصغر حجماً، وأكثر اختصاصية. تعدّدت الشاشات مع الارتقاء التكنولوجي الهائل الذي تشهده البشرية الآن، وستشهد لاحقاً أهول منه، إذ لم تعد شاشات العرض البصري تعكس الضوء الساقط عليها من آلة العرض، بل صارت مُنتجة للضوء المُلوّن بالإلكترونات المخصّصة لكلّ لون. الأهمّ من هذا كلّه أنّها ليست مُخصّصة للأفلام وحدها، كما صالة السينما، بل تستخدم فنون الصورة لخدمة نفسها، وإظهار إبهارها، إذ تُستخدم بجميع الأشكال لعرض منتجات الصورة، بغضّ النظر عن وظيفتها ومهمتها، وتضغط بهذا على الرأي العام لأسباب تسويقية، أيّاً كان نوع السلعة (تجارية، سياسية، علمية، أيديولوجية). بهذا، تندمج الشاشة وطرق استخدامها ببعضها بعضاً، من دون أي تمايز فني بينها. صحيحٌ أنّ المتلقّي يعرف الفرق بين الفيلم السينمائي والمسرحية والأوبرا، ويُفرّقها عن الدعاية والأخبار المُصوّرة.
لكنّ هذا الدمج يُلغي الحساسية تجاه قول فني، محصور بالشاشة الكبيرة، ينتقل إليها المرء بقصدية كاملة لتلقّي جرعة فنية ترفيهية، لا يستطيع التغيير في شروطها، ليحصل على المُقابل كاملاً الذي يتوقّعه من هذ الفعل،
ليبدو التعامل مع الشاشة الجماعية في مكان واحد قصدية كبرى من السينما، مهما كان نوعها. مع ثمانينيات القرن الـ20، بدأ التحوّل في المشاهدة السينمائية من الشاشة الكبيرة إلى شاشة التلفزيون، التي نافست السينما ولم تتغلّب عليها.
لكنْ، مع حضور الفيديو وآلات عرضه، تمّت انعطافة غير قليلة أثّرت في معنى الفيلم السينمائي نفسه.
فهذا التقليد الاجتماعي/المعرفي الفاخر بدأ بالانحسار إلى داخل البيوت، نتيجة التثريب الكثيف لهذا التقليد، إذ استبدل العامّة، الجمهور المطلوب للعرض السينمائي، غرفة الجلوس أو النوم أحياناً بصالة السينما، التي يتطلّب الذهاب إليها قصدية كاملة.
ساعد الفيديو على إقناع الناس بأنّ الأفلام وبقيّة المنتجات البصرية المُنتجُ نفسه، إلى درجة أنْ صار هناك إنتاجٌ لأفلام عربية "سينمائية" لأجهزة الفيديو المنزلي،
فبدا الأمر كأنّه تقنينٌ لخروج الأسر من المنازل، بسبب معنى مُشوّه عن السينما، وذلك بجلب صالة العرض إلى البيت، ومنع خروج أهله في هذه النزهة.
اليوم، تقاسمت أنواع الشاشات محبي "المُشاهَدة" ومحبي "الرؤية". فإضافة إلى شحّ صالات السينما في العالم العربي، هناك إغراء السهولة والراحة باستخدام التكنولوجيا،
وإضافة إلى قنوات الأفلام وأسطوانات "دي في دي" والتلفزيونات العادية، هناك الشاشات الإلكترونية من ساعة يد، وشاشات هواتف ذكية، وكمبيوتر شخصي، إلى الشاشات الإعلانية الضخمة في الشوارع.
لا تكفي الآراء الفردية لتصويب اختيار طريقة العرض، فللرأي الفردي أولوية، ولا يستطيع أحدٌ إجبار الناس على طريقة التلقّي، إلا في حالة واحدة: الحالة الثقافية لجميع الأفراد، وهذا كما يبدو قصورٌ في تناول الفنون الحديثة والمعاصرة.
في إبقاء العرض السينمائي محصوراً داخل البيوت، هناك مفارقة شديدة السخرية، إذ إنّ هذا التصرف رقابي صارم، يسمح بمُشاهدة المجاز أخلاقياً وحيائياً، لكنّه يسمح بالمُشاهَدة السرّية أيضاً، إذْ تنفجر قواعد الحياء والأخلاق المعتادة، لتعانق العقول قبل العيون، في فوضى بصرية ناتجة عن هاتين الطريقتين بالسماح بالمُشاهدة.
ربما سيقال إنّ الإنسان حُرّ باستخدام أي تكنولوجيا تُقدّم له فنوناً بصرية، بينها الأفلام. المهم أنّ هناك مُشاهَدة وتلقّياً عبر هذه التكنولوجيا أو تلك، وهذا صحيح، لكنْ ليس لسبب فني أو سينمائي بل بسبب اختلاط "الرؤية" للفنون والإبداعات المُستحدثة أيضاً.
نجيب نصير