إسرائيل تحوّل السلع التكنولوجية إلى أدوات للقتل: سلاسل التوريد لم تعد آمنة
بمعزل عن الطريقة الاستحباراتية والتقنية، فإن تحويل أجهزة مدنية مثل «البايجر» إلى متفجّرات تستهدف القتل، سيرفع منسوب المخاطر في سلاسل التصنيع والتوريد وينعكس سلباً على الثقة بين الدول المصنّعة والدول المستهلكة.
فقد يعمد كل طرف إلى تعديل قواعد الأمان المتعلقة باستيراد السلع بشكلها الأولي أو النهائي والسماح بعبورها حدوده. السمعة التجارية ستصبح قيد الاختبار، وهو ما تترجمه الدول في تكتلاتها الجيواستراتيجية بين دول متحالفة أو متخاصمة أو حتى محايدة.
من سيثق بمنتج صادر من مصنع «مخروق» أو من دولة «مخروقة»؟ هل الحاجة إلى سلعة ما تفوق مخاطرها الأمنية؟ قد تكون انفجارات أجهزة «البيجر» و«اللاسلكي» حادثاً فريداً ذا بُعد متصل بسلاسل التصنيع والتوريد التي ستكون جزءاً من إعادة تشكيل التكتلات الدولية
نفّذ العدو الإسرائيلي، أول من أمس، عملية إرهابية، من خلال تحويل أجهزة «البايجر» التي تحمل علامة تجارية خاصة بشركة «غولد أبولو» التايوانية إلى متفجّرات تستهدف قتل أفراد عُزّل.
وما تبيّت حتى الآن أن العدو تمكّن، بطريقة ما، من اختراق سلسلة التصنيع والتوريد، أي ما بين المُصنِّع (سواء في تايوان أو في غيرها)، والمستهلك في لبنان.
وهذا ما دفع الشركة إلى إصدار بيان ينفي مسؤوليتها عن صناعة هذه الشحنة وتوريدها إلى لبنان، مدّعية بأن الشحنة صُنّعت في بلد أوروبي لديه رخصة إنتاج هذه السلعة بالاسم التجاري المملوك من الشركة التايوانية.
وقد سارعت السلطات التايوانية إلى التحقيق مع مالكي ومديري الشركة، فيما اضطرت الشركة التايوانية إلى إصدار بيان ينفي شبهة تصنيع الشحنة الواردة إلى لبنان.
ما حصل ليس حدثاً تجارياً عادياً، ولا سيما في الصناعات المتّصلة بتكنولوجيا الاتصالات بكل ما فيها من القطع التي يتشكّل منها الـ«بايجر» أو أي جهاز لاسلكي آخر مثل الخلوي وسواه وصولاً إلى محطات البث والتجهيزات الأساسية لها.
فهذا الحدث أضاف إلى شبهات التنصّت التي كانت تدور حول عالم الاتصالات، تأكيدات بتحويل الأجهزة إلى أدوات اغتيال وقتل.
كلّ ذلك سيرفع من مستوى المخاطر التجارية، ويضرب الثقة بين المُصنّع والمستهلك. فالمنتجات المُخصّصة للمدنيين، يمكن أن تتحوّل في ثوان إلى آلات اغتيال، بينما يمكن أن يمتدّ الخرق الإسرائيلي لأجهزة «البايجر»، إلى خروقات أخرى لا تنحصر بلبنان أو بسلعة واحدة، بل تصل إلى دول أخرى وتشمل عدداً كبيراً من الأجهزة المستخدمة مدنياً في المنازل.
يثير الخرق الإسرائيلي لخطوط الصناعة والتجميع أسئلة بشأن حياد الشركات عن الصراعات العالمية. فـ«البايجر» مثلاً، جهاز يُستعمل مدنياً على نطاق واسع في التواصل مع الفرق الطبية والإسعاف والإطفاء،
علماً أن الدول لا تُخضِع استيراد الأجهزة المخصّصة للاستخدام المدني لأيّ تدقيق أمني، بعكس تلك المُستخدمة عسكرياً.
ورغم التدقيق الأمني الذي تمارسه المقاومة في لبنان على استيراد ما تحتاج إليه من أجهزة وأدوات، إلا أن العدو وجد طريقةً للتسلل عبر استغلال سلاسل التوريد لتحويل «البايجر» إلى «أحصنة طروادة»، واستسهل تفجير الأجهزة بشكل جماعي بين الناس.
وهذا الأمر يتجاوز حدود ما هو معروف عما يحصل في عالم التكنولوجيا لجهة تجميع البيانات والداتا وبيعها سواء بهدف تجاري أو أمني، إذ إن الخرق الإسرائيلي أظهر قدرة استخباراتية على تنفيذ عمليات قتل جماعي.
أصلاً، تجميع الداتا وبيعها هما دليل واضح على انحياز الشركات إلى مصالح تجارية وأمنية محدّدة،
إلا أن انخراط الشركات، سواء عمداً أم إهمالاً، في تحويل المنتجات الإلكترونية إلى آلات للقتل سينعكس حتماً على قواعد الإنتاج والتكتلات التجارية بين الدول التي تحكم عملية الإنتاج والتوريد.
ثمة دول لن يعود بإمكانها الثقة بمنتجات تأتي من شركات قد تكون منخرطة مع أعداء لها أو «مخروقة» منهم. فما الداعي لإدخال منتجات آبل إلى روسيا مثلاً؟
وأي منتج فيه شرائح إلكترونية متناهية الصغر (يمكن تحويلها إلى أدوات متفجّرة أو التأثير فيها عن بعد) تأتي من تايوان وتُنتج من خلال قوالب صُنعت في هولندا لا يمكن الثقة به في الصين وروسيا وبعض بلدان المشرق مثلاً.
عملياً، ما حصل يثير مسألة أساسية: لبنان مثل الكثير من البلدان التي تعتمد على سلاسل التوريد التي فرضتها العولمة بصيغتها النيوليبرالية، لشراء الأجهزة الإلكترونية.
والواقع، أن الغرب يحتكر التكنولوجيا، وإن كانت الصين تحاول المنافسة وتقدّمت في بعض المجالات. يصف ديفيد سميث هذا الأمر بـ«التبعية التكنولوجية».
ويشرح في دراسة بعنوان «التكنولوجيا والنظام العالمي الحديث: بعض التأملات»، أن التبعية التكنولوجية أصبحت أهم الأدوات التي تستخدمها دول «المركز الرأسمالي»، أي الدول الغربية، للحفاظ على تفوّقها ضمن هرميّة النظام الاقتصادي العالمي.
في المقابل، «دول الهامش»، أي باقي دول العالم، غير قادرة على استخدام مواردها في التطوير، لأن الأبحاث اللازمة تحتاج إلى بنى تحتيّة مكلفة جداً تضمّ مختبرات وجيوشاً من المتخصّصين وأنظمة تعليم متميّزة...
كل هذا يحتاج إلى موارد ماليّة هائلة، لا تستطيع الدول الفقيرة تحمّلها بفعل وضعها في النظام الاقتصادي العالمي.
لذا، تبقى هذه الدول بحاجة إلى التكنولوجيا التي تطوّرها دول المركز. التبعية التكنولوجية ظهرت لأول مرة منذ نحو 4 عقود حين أراد كين تومسون، وهو أحد مبتكري نظام التشغيل «يونيكس unix»، اختبار القدرة على إخفاء باب خلفي سرّي في سجلّ الدخول إلى «يونيكس» من خلال «دسّ» برمجة خبيثة تمنحه القدرة على تسجيل الدخول إلى أيّ طرف يستعمل هذا النظام من دون أن يكتشف التلاعب.
وكتب كين تومسون لاحقاً في محاضرة ألقاها عام 1984: «لا يمكنك الوثوق في التعليمات البرمجية التي لم تصنعها بنفسك بالكامل، وخصوصاً برنامج التشغيل، من الشركات التي توظّف أشخاصاً مثلي».
هذا الواقع، يضع الدول الفقيرة أو «دول الهامش» بين خيارين: أن تعمل شركاتها بالتقنيات المتوافرة لديها، وهي أقل كفاءة و لا تستطيع مجاراة الشركات الأخرى لا في التقدم ولا في الأرباح، أو شراء التكنولوجيا من دول المركز وتسديد فاتورة باهظة ثمناً لحقوق الملكية.
هذا يعني أنها ستدفع في الحالتين ثمن تخلّفها التكنولوجي. وفي حالة أجهزة الاتصالات، تجد «دول الهامش»، مثل لبنان، نفسها مضطرة إلى الاعتماد على سلاسل التوريد الغربية بشكل مركّز، وهو ما يجعل الدول المناوئة أو حركات المقاومة مكشوفة أمام مخاطر خرق سلاسل التوريد.
فؤاد بزي، ماهر سلامة