مفاضلة بين المال والحقوق
في الغالب والأعم يستصعب على المرء فهم ذاته، أو سبر أغوار نفسه؛ ولذلك قالوا المرء مرآة أخيه. ويقال أيضا أن المرء غير مؤهلا للحكم على نفسه؛ لأنه غالبا يفتقد للحياد والموضوعية في وجه أنانيته وغرائزه، أما في المفاضلة والاختيار فيمكن القول إنه ربما المرء من خلال اختياره يعيد اكتشاف نفسه، بل ويكشف عن بعض تفاصيله، وخبايا طويته.
في مايو 2003 شرعوا في تشكيل اللجان الدائمة للمجلس، وعددها تسعة عشر لجنة، وكان يتوجب أن أحدد الرغبة في ثلاث لجان فقط من قوام الـ 19 لجنة، ليتم ضمي إلى إحداها.
لم أكن أعرف من الذي يتولى حسم قرار اختيار واحدة من الثلاث رغبات التي سأبديها، ولكني كنت أعتقد أن الرغبة الأولى ستكون هي الراجحة، ولها الأولوية عند المفاضلة بين الرغبات التي سأدرجها في الاستمارة تراتبيا والمعدة لهذا الغرض.
وبين الأمس واليوم ما لا يقارن.. اليوم لم يعد لدينا إرادة أو إختيار أو برلمان أو لجان.. هكذا انحسر الاختيار إلى جبر وإذعان..
***
كنت أسأل نفسي:
- ما هي رغبتي الأولى التي أفضّلها أو أميل إليها..؟! تسعة عشر لجنة تتخاطف رغبتي، وكل وحده لها مزاياها وتلقي بمسؤوليها على كاهلي بعد أختار.. يجب حسم اختياري وتحديد الأولوية بواحدة وتليها ما يليها!! أين يمكن أن أنجح من حيث الرغبة والمهام وتوقع النجاح..؟ في أي لجنة يمكنني أن استحث طاقتي على نحو أفضل، وتكون محل رضاي دون ندم أو سوء تقدير؟! في أي لجنة أجد حماسي وشعوري بالانتماء، وممارسة وجودي وكينونتي؟!
اعتبرتُ اختياري بداية لمسار جديد.. يجب أن أكون مستعدا للتحديات التي يفرضها هذا الاختيار.. سوف أختار ثلاث لجان متدرجة بحسب الرغبة كما تشترطتها أو تفرضها الاستمارة.. كان يتعين أن اتداول الأمر مع من أثق بهم حتى أحسن الاختيار، وقد جاء في المثل الشائع: "ما خاب من أستشار".
حثني البعض على اللجنة المالية باعتبارها من أهم لجان المجلس ولكن أنا لا أميل إلى عضوية اللجنة المالية.. ليس لدي ولعا في المال وشؤونه.. افتقد لأي حماس نحوها.. لا أجيد العد والحساب بعد المليون.. أشعر أنه لا يوجد بيني وبين المال أي كيمياء، أو مشترك يدفعني نحوها بحد من الحماس، أو على نحو يجعلني اضعها في مرتبة الرغبة الأولى في تراتبية الرغبات التي سأبديها، رغم علمي بأهميته هذه اللجنة.
بديت أمام نفسي وأنا أفكر باللجنة المالية كمن يحاول استكشاف طريق مجهول بعصا أعمى.. صحيح أن وجودي في اللجنة المالية ربما تطلعني عن فساد المجلس وفساد الحكومة أكثر.. ربما تكشف لي كثيرا مما هو غير معلن من خبايا الفساد، وهو أمر يشدني إليه إنحيازي ورغبتي لمكافحته، وكشف الأسرار التي لا تذاع والمتعلقة بالفساد وهواميره.
ثم ما ألبث أن ينازعني صوتي الآخر الذي أنتمي إليه وهو يقول لي:
- أنت انتماءك الحقيقي ليس للمال وإنما للإنسان.. الموقع الذي يبحث عنك وتبحث عنه هو موقع الحريات وحقوق الإنسان.. إنك تعشق هذا دون مواربة.. تعشق المقاومة والنضال والمتاعب.. في هذه اللجنة ستجد نفسك تمارس وجودك على نحو أفضل وبجدارة أكثر.. هنا ستجد ضميرك بحضور أكثر كثافة.. أنت تحب الناس كما تحب التميّز والتفرّد في العمل والنتائج، ولن تجد غير هذا الموقع تقدم به نفسك على نحو يليق بك وبضميرك وإنسانيتك، وستكون أكثر عطاء وتميزا فيه، بل وانتماء إليه.. في الحريات والحقوق ستقدم الكثير مما لا تستطيع تقديمه في أي لجنة أخرى.
ولتأكيد المؤكد يذهب بي نفس الصوت إلى مزيد من المقارنة بين لجنة الشؤون المالية في المجلس ولجنة الحريات وحقوق الإنسان حيث ينساب الحديث والقول:
- صحيح أن المالية فيها ما تعشقه في إطار الرقابة ومكافحة الفساد إن صار الحال كما ترتجي، كما ستعدك أيضا بأن تكون الأكثر ربحا ورخاء في عائدها المادي، ولكن لجنة الحريات وحقوق الإنسان ستمارس فيها وجودك بما يليق بك، ستحس بإنسانيتك وضميرك ووجدانك أكثر.. سوف تتمكن من نصرة المظلوم، وتعمل على رفع الظلم عن الأعناق والكواهل، والعمل على إيقاف الانتهاكات بحق الإنسان قدر ما تستطيع، وتعمل من أجل حرية عظيمة لطالما كنت تبحث عنها.. ليس من أجلك، بل من أجل الناس الباحثين عن وطن وعدالة.
***
وأمام هذا التعارض وربما التناقض والاحتدام البيني حسمت أمري لصالح الحريات وحقوق الإنسان.. لا بأس أن جعلتُ رغبتي في لجنة الشؤون المالية في المرتبة الثانية أو الثالثة.. الرغبة التي أعشقها هي الحريات وحقوق الإنسان أكثر من أي رغبة أخرى غيرها.. هذا المجال الوحيدة الذي سيروقني وأروقه حد المتعة، حتى وإن جلب لي كثير من المعاناة والمتاعب.. إنه نضال وواجب يستحق التضحية بضمير عامر بالرضا والارتياح.
هذا المجال الذي سأبحر فيه ويبحر فيني دون أن أشعر بملل أو سأم.. هو الميدان الذي سأعمل فيه حد الإعياء، ورغم المتاعب التي سأجدها سأجد معها إحساسي بالمتعة واللذاذة.. الحريات وحقوق الإنسان هي اللجنة التي استحقها وتستحقني.. لكل هذا وذاك قررت أن تكون هي رغبتي الأولى من بين تسعة عشر رغبة وخيار.
اختيار ومفاضلة تستحق الاهتمام، ورغم أن موقع اللجنة في تراتبية اللجان بلائحة المجلس تأتي في ذيل القائمة وتحديدا الرقم 19 فأنه يكشف أن مُعدّي هذه اللائحة توالدوا من رحم الاستبداد لا من رحم مقاومته.
ومع ذلك عندما تم تشكيل اللجان وجدت كثيرا من الغرابة أهمها أن رؤساء كتل الأحزاب الرئيسية ما عدا الاشتراكي أعضاء في لجنة الحريات وحقوق الإنسان، وهم سلطان البركاني رئيس كتلة المؤتمر، وعبد الرحمن بافضل رئيس كتلة الإصلاح وسلطان العتواني رئيس كتلة الناصرين.. كما وجدت مشايخ وضباط أمن عديدين في عضويتها.. مفارقة بدت لي غريبة ومذهلة.. وكان سؤالي الأهم حينها: هل هؤلاء سيكونون عونا للحريات وحقوق الإنسان، أم سيكونون عونا في وأدها؟!!