الانسان سلوك ومسلك!!
اليوم وصلني خبر وفاة برفيسور تقاطعت حياتي معه ترك أثر واحترام في نفسي له.
هذا الخبر جعلني ارجع بذكرتي إلى اول يوم تقاطعت حياتي معه حيث في نهاية عام 2006، كان هناك اجتماع ضم 14 أستاذًا جامعيًّا (برفيسور)، وكنت أنا حاضرًا كدكتور رئيس مجموعة صغيرة ليست ذات حجم أو معنى، أي بمعنى ليس سمك قرش وأنما سردين كما اتحدث. لم أكن وقتها برفيسور.
طلب مني البرفيسور الذي كنت أعمل معه أن أشاركه هذا الاجتماع، وقبل ذلك بكم يوم سلّمني ملفات لبناء مشروع كبير بقيمة 27 مليون يورو لكي نتناقش أنا وهو حوله عندما يكتب هو أي شيء.
لم يكن يتوقع أنني سوف اسهر ليالي متواصلة بين تلك الاوراق وأبحث في الإنترنت، وأفصل التفاصيل، وأفهم كل صغيرة وكبيرة وكل الترابطات بين الأجزاء برغم انه ليس عملي، وأنما الفضالة على قولتي.
هنا عادةً ما تكون المشاريع الكبيرة عبارة عن حزمة تتضمن 16 مشروعًا أو أكثر ومتشعبة وتلتقي في هدف كبير أي تحمل تحقيق رؤية إستراتيجية.
الالمان يدعموا ذلك لأن ذلك يفجر فرص وتعاونيات ويرابط بين المجموعات البحثية الكبيرة. المهم، كنت وقتها مُقتنعًا أنني إما سأدخل معهم حلبة صراع المشاريع التي تستنزف وقت وجهد لكن أن ضربت فانها تخبط ارقام فلكية، أو على الأقل سوف يكن اخر مرة يفتح الباب امامي في هذا الطريق وعليا أن اكتفي أن أكن سمك سردين أي يمشي الشخص بجانب الحائط يدور مشروع ب 200 ألف يورو بالكثير.
بعد ذلك بكم يوم، تم تنظيم اجتماع كورشة عمل ضم البرفيسورات من جامعتين ومراكز بحث مختلفة، وكان الحديث حول بناء ذلك المشروع. كل واحد منهم ركّز فقط على الجزئية التي تخصه في العرض والنقاش وظهر الأمر لي وقتها ان أكبر اشكالية، كيف نربط كل هذه الافكار في رؤية واستراتيجيات وخطط تنفيذية لاتخر منها المياة، لأن ذلك يحدد اقناع لجان التحكيم
في مرحلتين.كل مرحلة لها أكثر من 12 برفيسور محكم، ولو اعترضوا على فكرة في مشروع واحد من مشاريع الحزمة يسقط المشروع، لأن ذلك يعني أن الفريق لم ينتبه لنقط معينة عند ذاته وعند زملائه. بمعنى كل شخص عليه ان يحسن ليس فقط في مشروعه وأنما مشروع الاخرين، ويحسن الترابط العام لأنه لو سقط جزء بسيط سقط الكل حتى وأن كانوا امتياز.
هذه هي قاعدة اللعب في هذا النوع من المشاريع بمعنى فريق متماسك ومكمل لبعضهم والتي نسبة قبول هكذا مشاريع أقل من 5 في المائة، وعلى مرحلتين أي التأهيل للنهائي، ياخذ سنة إلى سنة ونصف ودون مال، وثم التقديم للنهائي مع لجنة تحكيم كبيرة ودفاعات من كل البرفيسورات بوجود الوزارة ورئاسات المراكز البحثية وبعدها بشهرين يصدر الحكم.
المهم كنا وقتها هنا لم نصل بعد حتى مرحلة التأهيل، أي لازلنا في ألف وباء على قولتنا. المهم أعددت نفسي مسبقًا، حيث قمت بتلخيص كل شيء في عرض تقديم (بوربوينت)،
ولم أكتفِ بذلك، بل بحثت أيضًا في الدراسات والأفكار المتعلقة، وقمت بإكمال النواقص في بناء المشروع، ووضعت كل ذلك في عرض تقديم برغم انه لم يكن أي دخل في الامر، فأنا مجرد مرافق للبرفيسور حقي.
لكن فتح الباب لي فأنا نظرت للأمر فرصة لن تتكرر أكن بين 14 برفيسور وكل منهم قائد مجموعة بحثية .
المهم رأيت في ذلك فرصة ذهبية لا تتكرر كثيرًا، تشبه إطلاق رصاصة واحدة للانضمام إلى هؤلاء الأساتذة ذوي الخبرات والسمعة الكبيرة وفي مشروع نخبة كبير.
بدأ الاجتماع الساعة الثامنة صباحًا، بعد أن وصل الجميع من مدنهم. وجلست أستمع إلى النقاشات، وكيف ستُرتَّب الأمور، وما سيكون من تفاهم وتوزيع للمهام، وكل برفيسور يقدم ما لديه.
أنا كنت تقريبا في الظل هنا ودون معنى في الاجتماع لأن البرنامج يخص اسماك القرش والبرفيسور حقي واحد منهم.
على العموم، توصلوا تقريبًا إلى اتفاق على كل شيء، ورتّبوا أمورهم وقسموا المهام للانطلاق، لكني كنت جالس غير مقتنع، وأقول في نفسي: "لن يُنجحوا بهذه الافكار لأن هناك حلقة مفقودة.
وقبل أن ينتهوا، وبعد تردّد شديد بسبب الحياء والخجل، كونهم كبار واسماء لامعة، طلبت منهم إن كان يمكنني التحدث فقط لعدة دقائق لأقدّم عرضًا حول ماطرحوا هم.
فقالوا لي: "انت هتقدملك إيه؟" كما يقول المصريون. ذلك جعلني اتخيل البردوني وقصيدة أبو تمام وعروبة اليوم والقاعة قد بدأت تحزم أمورها، وشاهدوا البردوني ليس بذلك الحجم وقتها.
المهم بدأت حديثي وقلت لهم بصراحة "إن هناك مشكلة كبيرة سوف تؤدي إلى فشل كل ما تتحدثون عنه في الوصول إلى الهدف، والأسباب كثيرة".
وطرحت لهم شغلهم واحد واحد لكي اظهر لهم أنني فاهم شغلهم والحلقة المفقودة صنعتها لهم، وكنت قد غطّيت الموضوع بشكل دقيق، ووجدت نقاط الضعف في عدة مواضع، والتي تحتوي على أخطاء قاتلة سوف تؤدي رفض المشروع في المرحلة الابتدائية ويكن الأمر اهدر وقت الجميع دون معنى. المهم الآن بعد كلام ارتفعت الأصوات وانتبه الجميع لكل ما قلت.
وفي النهاية، طلبوا مني أن أضع لهم الخطة والمخطط العام. ومن ذكرني بذلك اللقاء تحديدًا هو برفيسور كبير ومشهور، وهو مؤسس أكبر مركز بحثي في علوم الدماغ كان هو الجوكر لأن اسمه لامع وعلاقته واسعة وقد وصلني أنه توفى اليوم.
وبعد أسبوعين، قدمت لهم محاضرة مفصّلة مع المخطط وعلى قولة أحدهم نسمي ذاك الحمادي موديل.
وبعد مرور عدة أشهر، طلبوا مني رسميًّا أن أكون شريكًا لهم في المشروع رغم أنني لست برفيسيور وقتها، وقد كسبت ثقتهم. ومنذ ذلك الحين، بدأوا يتعاملون معي باحترام كبير، ويقولون أثناء الشرح في أي لقاء: "حسب خطة الحمادي".
المهم خرجنا من التأهيل الأول إلى النهائي وكل حزم المشاريع أخذت تقيم امتياز وجيد جدا واخذنا الفلوس أي الدعم وكانت تلك أيامًا رائعة جدًّا قضيتها معهم، واستمرت علاقتي بهم حتى أصبحت جزءًا من شبكة البحث تلك على مستوى ألمانيا وتوسعت الشبكات معي خطوة خطوة وبشكل مرهق لكن تشعر أنك ترسم شيء ذو معنى للابد.
والبرفيسور المتخصص في علوم الدماغ، والذي كان يعمل في مركز بحثي كبير، كان هو الأكثر دعمًا لي بعد ذلك، وكان دائمًا يشدد على أهمية وجودي في أي جهة.
اليوم، استلمت خبر وفاته ومنزعج من الصباح، وشعرت بحزن عميق عليه، لأن الإنسان في نهاية المطاف هو مجموعة مواقف، وتقاطع طريق، أو كما أقول: "سلوك ومسلك" فرحمة الله عليه، فقد كنت اتناقش معه بشكل مفصل حول مايدور داخل المخ وتفسير كل سلوك.
وكان هو المعلم وأنا الطالب برغم أنني كنت شريك معهم فيما بعد ونصيبى في ذلك المشروع من المال أكثر منه.