هل بدأت الصورة تتشكّل فعلاً مع عودة قطع لعبة الشطرنج إلى أماكنها الطبيعية؟
يبدو أن الأحداث المتسارعة في الإقليم تُعيد رسم الجغرافيا السياسية ضمن نسق جديد، حيث لم تعد أدوات التحليل الكلاسيكية كافية لفهم المسار القادم.
في خضم صراع مفتوح تتداخل فيه الاستراتيجيات والعقائد، بدأت اللعبة تُعيد تعريف السياسة البيروقراطية التقليدية، وتضعها ضمن أطر جديدة تحكمها حركة القوى الكبرى ومشاريعها طويلة الأمد.
فما نشهده اليوم ليس مجرد مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران، بل هو ارتداد عميق لمرحلة إعادة تشكّل الجيوبوليتيك العالمي، في زمن تندفع فيه الأحداث بسرعة نحو ذروات غير مسبوقة.
المدّ الصهيوني والمدّ الإيراني ليسا مجرد نفوذين إقليميين، بل هما تمظهران لمشروعين جيواستراتيجيين متناقضين يتنافسان على فرض رؤية كبرى للمنطقة.
تسعى الصهيونية الكبرى إلى ترسيخ إسرائيل الكبرى كقوة محورية في قلب الشرق الأوسط، ضمن مشروع توسعي ناعم يعتمد على القوة العسكرية، والاختراق الاقتصادي، والتطبيع مع العرب، والدعم الغربي المستمر — لا سيما من الولايات المتحدة.
أما المشروع الإيراني، فيتجسّد في ما يُعرف بـ”الهلال الشيعي”، الممتد من طهران إلى بغداد ودمشق وبيروت، وحتى اليمن،
ويقوم على فكرة “مشروع المقاومة” وإعادة تصدير الثورة الإيرانية الشيعية، في مواجهة النفوذ السني والعربي، معتمدًا على أدوات الدولة العميقة، ووكلاء الحرب، والعقيدة الثورية.
إن الشرق الأوسط لم يعد مجرد مسرح لتقاطع مصالح إقليمية بين إسرائيل وإيران والعرب وتركيا، بل بات يشكّل نقطة ارتكاز مركزية في لعبة أمم يُعاد تشكيلها بعد أفول النظام العالمي ثنائي القطبية.
فمن آسيا الوسطى وامتدادات النفوذ السوفييتي السابق، إلى أفغانستان وباكستان، فالصين في الشرق، مرورًا بالمصالح الأمريكية العميقة في البحار والموارد — تتكامل هذه الدوائر لتجعل من الشرق الأوسط مركز اشتباكٍ بين القوى العظمى، لا مجرد ساحة نزاع محلي وإقليمي.
وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الحرب الإيرانية-الإسرائيلية التي اندلعت بشكل مباشر في لعبة كسر العظم ( تجاوزة المواجهات عبر الوكلاء) بوصفها نقطة فاصلة، أو “لحظة كسر التوازن”، التي ستعيد رسم خرائط النفوذ والهوية في الإقليم.
فالمعركة ليست مجرد اختبار للقوة، بل لحظة تموضع جيوبوليتيكي تختبر فيها المشاريع الكبرى صلابتها في الميدان، ومدى قابليتها للتمدّد أو الانحسار.
ربما آن أوان الحقيقة الجيوبوليتيكية: فإمّا أن تُستكمل مشاريع النفوذ الإقليمي الكبرى، أو أن تتصدّع تحت ضغط الواقع وتوازن القوى. وفي الحالتين، فإن خريطة الشرق الأوسط كما نعرفها اليوم باتت في مهبّ تحوّل قد ينتهي بأحد سيناريوهين متناقضين:
إمّا حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية، أو تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى وولادة دولة “تركمانستان”، في حال نجحت إسرائيل والولايات المتحدة في إسقاط النظام الإيراني — وهو أمر لن تسمح به الصين وروسيا، لما يمثله من خلل جذري في توازن القوى العالمي.
* دبلوماسي وسياسي يمني