مخاض الإقليم المتغير واليمن العالق بين الفرصة واللعنة
يشهد الإقليم في هذه المرحلة واحدة من أكثر لحظات التحول خطورة وتعقيدا حيث تتقاطع الصراعات الإقليمية والدولية على نحو غير مسبوق وتعيد رسم ملامح النفوذ والتحالفات بشكل يهدد الكيانات الهشة ويقوض ما تبقى من التوازنات القديمة ..
فالحرب المفتوحة بين إيران وإسرائيل ليست سوى تجلٍ لحالة تراكمية من الاحتقان والصدامات المؤجلة التي بدأت تتفجر بشكل تدريجي منذ سقوط بغداد مرورًا بالحرب في سوريا وصولًا إلى انهيارات الدولة في اليمن ولبنان وليبيا والعراق ..
وقد بات واضحًا أن معادلة الردع التقليدية لم تعد كافية لضبط الإيقاع وأن مسارات التحول أصبحت مرهونة بمشاريع النفوذ لا بآمال الشعوب ..
وسط هذا المشهد المشتعل تبدو اليمن أكثر الأقاليم هشاشة وأشدها تعرضًا للارتدادات العنيفة فهي تقع جغرافيًا عند مفترق الطرق بين الخليج والقرن الأفريقي وبين البحر الأحمر والمحيط الهندي ..
وبهذا الموقع الاستراتيجي أصبحت عرضة للتجاذبات الخارجية منذ عقود غير أن العقد الأخير شهد تآكلًا غير مسبوق في بنيتها الوطنية وتفتت مؤسساتها الرسمية وتحول العديد من مناطقها إلى ساحات نفوذ لقوى محلية مدعومة إقليميًا ودوليًا مما جعلها بيئة مناسبة لصراعات الوكالة والمصالح المتضاربة ..
في خضم هذه المعادلة يبدو أن اليمن رغم مأساتها ما تزال تملك فرصة لإعادة تشكيل مستقبلها الوطني لكن ذلك يتطلب إرادة سياسية تتجاوز المشاريع الطائفية والمناطقية وتتأسس على مبدأ الشراكة والمواطنة الجامعة ..
ومن المهم الإقرار بأن استعادة الدولة لا تعني مجرد عودة السلطة المركزية وإنما بناء منظومة حكم قادرة على تمثيل التنوع الجغرافي والاجتماعي والقبلي بما يعيد الثقة بين المكونات ويفتح المجال لعملية سلام شاملة ومتكاملة تنهي مرحلة الاحتراب وتضع حدًا للتدخلات الخارجية ..
غير أن هذه الفرصة تقف على حافة الخطر في ظل الانقسام الحاد بين القوى المحلية وتضارب الأجندات الخارجية التي تنظر إلى اليمن باعتباره ساحة متاحة لتصفية الحسابات أو لتحقيق مكاسب استراتيجية دون اعتبار لمصير الملايين من أبنائه ..
ومع تفجر المواجهة بين إيران وإسرائيل يزداد احتمال انزلاق اليمن مجددًا إلى أتون صراع إقليمي بالوكالة تستخدم فيه أدوات محلية يتم تعبئتها طائفيًا ومذهبيا وإيديولوجيًا دون وعي كافٍ بكلفة هذا الانزلاق على النسيج الوطني ومستقبل الدولة ..
إن تكرار تجربة الاحتراب الداخلي على وقع الصراعات الإقليمية سيقود اليمن إلى مزيد من التفكك وسيمهد الطريق أمام قوى التطرف والفساد لفرض واقع جديد يزيد من معاناة الشعب ويقوض أي مسار نحو الاستقرار ..
بل إن استمرار الوضع الراهن دون معالجة سياسية واقتصادية عميقة سيفرض على اليمن خيارات مؤلمة أقلها القبول بالتقسيم الواقعي أو التبعية الكاملة لقوى الخارج وهو سيناريو يجب تفاديه بكل الوسائل ..
اليمن اليوم لا تقف على هامش الحدث بل في قلبه وهي ليست مجرد متلقية لتداعيات التحول بل فاعل محتمل فيه إذا ما تم استنهاض قواها الوطنية الحية التي أنهكها الصراع لكنها لم تستسلم بعد ..
ومفتاح الخروج من الأزمة يكمن في تبني مشروع وطني جامع يعيد الاعتبار للهوية اليمنية الواحدة وينهض من تحت الركام ببناء جديد قائم على الإنصاف والمشاركة والانفتاح لا على الإقصاء والهيمنة والارتهان ..
* سفير بوزارة الخارجية