سُرقت منّا الذاكرة.. كيف خُدع شعب الملوك؟
يحدث أحيانًا أن يعيش شعبٌ عظيمٌ داخل أسوار ذاكرته، بينما تُسرق حاضره على مرأى منه. أن تُصبح الأمجاد عبئًا على الوعي بدل أن تكون منارًا يُضيء الطريق.
اليمن، هذه البلاد التي عرفت الحضارة يوم لم يكن للعالم شكلٌ ولا معنى، وقفت حائرة أمام سؤال واحد: كيف يُخدع ملوك الأرض حتى يستسلموا لعبيد التاريخ؟
الشعب اليمني ليس كباقي الشعوب. هو ابن السدود، وأخو الأنبياء، وسليل الممالك العظيمة التي نشرت العدل والعقل، وبنت حضارة لا تزال شاهدةً في معابد مأرب، ونقوش ظفار، وخرائب شبام. شعب حميري قحطاني وعدناني، اجتمع فيه الأصل، والنسب، والكرم، والذكاء، والأنفة.
فكيف لهذا الشعب أن يُقاد بلا وعي إلى فتن الطائفية؟ كيف يقبل أن يُحكم باسم الله، من قبل من لا علاقة له بالله سوى زيف اللحى وصدى الشعارات؟
لقد دخل الرسيون اليمن لاجئين، منهزمين، فاحتضنهم هذا الشعب الكريم، وأواهم، وآخى بينهم وبين أهله. لكنهم لم يلبثوا أن استداروا على هذا الإحسان، وركبوا على الطيبة، وصعدوا على أكتاف الكرم، ولبسوا ثيابًا من المجد ليست لهم.
أصبحوا ملوكًا على من أحسن إليهم، وأقاموا لأنفسهم سلالة ربانية، تُضفي القداسة على ظلمهم، وتمنحهم الحق في استعباد شعب لم يعرف الانكسار.
كيف؟ ببساطة: بالخداع، والتجهيل، واستثمار لحظة الضعف في وعي الناس.
فقد علموا جيدًا أن شعبًا كاليماني لا يُهزم بالقوة، بل يُطوّع بالجهل. ولذلك كانت أول أدواتهم هي تغييب العقل، ووأد الفكر، وتقديس الجهل، فشيدوا إمامةً قائمة على محو التاريخ الحقيقي، وزرع الحكايات الملفقة، حتى صار الشعب لا يرى نفسه إلا من خلال عين الغريب.
وحين قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ظن اليمني أن عهد الاستعباد انتهى. لكن الحقيقة أن النار ظلت تتوهج تحت الرماد، تنتظر لحظة الفوضى،
وها هم قد عادوا، لا من الجبال هذه المرة، بل من مكاتب الدولة، ومن قنوات الإعلام، ومن كواليس السلطة.
---
إن أكثر ما يدعو إلى الحزن أن تتحول الدولة إلى أداة لإعادة إنتاج الجهل. فبدلًا من أن تكون الحكومة حارسة للوطن والمواطن، صارت طرفًا في الصراع.
حكومات متعاقبة أذكَت النزاعات، وعززت العصبيات، وزرعت الانقسام، حتى بات اليمني لا يعرف من عدوه الحقيقي، فصار ابن قبيلته عدوًا، وابن جلدته خصمًا، والغريب سيدًا!
أليس من العار أن تُغذى القبلية في القرن الواحد والعشرين؟ أن تُحيا صراعات السلالة والطائفة بينما يُترك التعليم بلا رؤية، والوعي بلا غذاء، والعقل بلا حرية؟
لقد تواطأ الجميع على هذا الشعب: الداخل المتواطئ، والخارج الطامع. استُخدم الدين لتكريس الوصاية، واستُخدمت السياسة لتدوير الجهل، فصار الناس عبيدًا لمن يدعي القُرب من السماء، بينما لا يعرف من الأرض إلا أنها غنيمة.
---
ولعل من أبشع صور الطبقية الخفية التي زرعها الكهنوت الإمامي في الوعي الجمعي اليمني، هي تلك التي تظهر في اللغة اليومية، في تفاصيل تبدو عادية، لكنها عميقة التأثير. كيف لنا أن نقبل أن تُكتب نساؤهم بـ"السيدة"، ونساؤنا بـ"الحُرّة"؟
هل كانت نساؤنا جواري فتحررن؟ وهل كانت نساؤهم ملكات بالفطرة؟!
من أين أتت هذه التراتبية؟ ومن أعطى أحدًا الحق في أن يُصنّف أنثاه بالسيادة وأنثانا بالحرية، وكأن الحرية عار يلحق من لم تكن سيّدة؟!
الفلسفة لا تقبل بهذا. فالفكر الحر يسأل: لماذا فُرضت على نسائنا هذه التسمية في الوثائق؟ ولماذا نقبل أن يكون هناك "نسب مقدّس" ونسب أقل؟
بل كيف نرضى أن تُحرم المرأة اليمنية من الميراث أو الولاية أو حرية الاختيار، بينما تُمنح للمرأة الإمامية كل الامتيازات باسم الاصطفاء؟
هذه ليست مجرد ألفاظ. هذه ثقافة. ثقافة تمييز متعمد، وطبقية لغوية تعكس طبقية سياسية واجتماعية، تحاول أن توهم الناس أن هناك "سادة" خُلقوا ليحكموا، و"أحرارًا" خُلقوا ليُقادوا.
---
في كل هذا، يبقى السؤال المؤلم معلقًا: كيف لشعبٍ علّم الأرض معنى الحضارة، أن يُقاد باسم الدين إلى كهوف الطائفية؟ كيف تقبلوا أن يُحكموا من سلالة دخيلة، هاربة، ادّعت السيادة بدم غريب لا يمُتّ إليهم بصلة؟
الجواب واضح: لأن الوعي غاب. غياب الوعي هو الجريمة الكبرى، وهو الفخ الذي سُقط فيه الشعب، ولا خلاص إلا بكسره.
السبيل الوحيد لاستعادة اليمن، لا يمر من فوهة البندقية، بل من أبواب الوعي. الوعي الذي يعيد لكل يمني قيمته، ولكل مواطن كرامته، ولكل أنثى هويتها، ولكل بيتٍ حريته، ولكل ترابٍ سيادته.