قيودٌ من قداسة: فن اغتصاب العقل اليمني
إن أقوى السلاسل التي تُكبل الأمم ليست تلك المصنوعة من حديد، بل تلك المنسوجة من خيوط القداسة الزائفة. هي قيود غير مرئية تُطوّق العقل قبل أن تُقيّد الجسد، وتجعل السجين حارساً متفانياً على زنزانته، يعتقد أنها محرابه المقدس.
إن الحكاية الرمزية للسفير البريطاني الذي هرع لتقديس بقرة في نيودلهي ليست مجرد حادثة تاريخية، بل هي بيان تأسيسي لأعتى استراتيجيات السيطرة على الشعوب:
صناعة الجهل، وحراسة الخرافة، والتأكد من أن العقل يظل ساجداً أمام أصنامه حتى لا ينهض أبداً.
هذه العبقرية الشيطانية في إدارة الوعي لم تمت برحيل الاستعمار القديم، بل تجلت في اليمن بصور أشد فتكاً وأعمق جرحاً على مدى الأربعين عاماً الماضية وحتى يومنا هذا.
فاليمن، بتاريخه الضارب في عمق الحضارة والفكر، لم يُهزم بالسلاح بقدر ما أُنهك وأُفرغ من الداخل عبر عملية "اغتصاب ناعم" للعقول، تم فيها تحويل الخرافة إلى عقيدة، والجهل إلى فضيلة، والوعي إلى جريمة.
لقد كانت ركلة الشاب الهندي للبقرة بمثابة صحوة، صرخة وعي في وجه خرافة استُخدمت لتركيع أمة. أدرك السفير أن هذه الركلة لو تحولت إلى ظاهرة، لانهار المعبد بأكمله، ولتقدمت الهند عقوداً نحو الأمام، وحينها لا بقاء للمستعمر.
وما يحدث في اليمن هو النسخة المطابقة لهذه المعادلة؛ حيث عملت قوى الطغيان، قديماً وحديثاً، على صناعة "أبقارها المقدسة" التي لا يجوز المساس بها.
في الماضي، كانت هذه الأصنام تتجسد في هالات القداسة التي تحيط ببعض الأسر أو الرموز، وتمنحها حقاً إلهياً مزعوماً في الحكم والتسلط، وكل من يشكك في هذه "الحقائق" يُتهم بالزندقة والهرطقة.
أما في العصر الحديث، فقد تطورت الأصنام وأصبحت أكثر تعقيداً. لم تعد بقرة واحدة، بل قطيع من الأبقار الأيديولوجية والحزبية.
وُضع الشعب اليمني المسكين بين كماشتي الولاء والطاعة، حيث كل حزب وكل جماعة وكل طائفة تقدم "بقرتها المقدسة" للتقديس الأعمى.
هذه البقرة قد تكون زعيماً مؤلهاً لا يأتيه الباطل، أو شعاراً برّاقاً يُفرّغ من معناه، أو سرداً تاريخياً مشوهاً يُمجّد فئة ويُحقّر أخرى.
لقد تم إفراغ مفاهيم كبرى مثل "الوطن" و"الشعب" و"الوحدة" من جوهرها، واستبدالها بولاءات ضيقة، وأصبح الانتماء لليمن تهمة، بينما الولاء للجماعة أو السلالة هو الإيمان الحقيقي.
إن أخطر ما في هذا الاغتصاب الناعم للعقل هو أنه يجعل الضحية تشعر بالرضا.
يُقنعون الإنسان بأن التخلي عن عقله والتسليم الأعمى هو قمة الإيمان، وأن السؤال هو بداية الضلال، وأن التفكير النقدي هو خيانة.
وبهذه الطريقة، يتم تجنيد الشعب نفسه لمحاربة أي بذرة وعي قد تنبت في أرضه.
يصبح المواطن العادي هو من يسارع لمعاقبة "الشاب الذي يركل البقرة"، ظناً منه أنه يدافع عن مقدساته، بينما هو في الحقيقة يدافع عن جهله، ويحرس بنفسه أسوار السجن الذي بناه له الطاغية.
إن صحوة العقول هي بالفعل بداية نهاية الطغيان. فكل سؤال يُطرح هو ركلة لمسَلَّمة زائفة. وكل شك في الروايات المقدسة للأحزاب والجماعات هو خطوة نحو التحرر.
إن الخروج من هذا النفق المظلم لا يكمن في استبدال بقرة بأخرى، أو زعيم بآخر، بل في تحطيم فكرة تقديس الأشياء والأشخاص من الأساس.
يكمن الحل في العودة إلى الإنسان، إلى العقل، إلى المبادئ المشتركة التي تجمع ولا تفرق.
إن المعركة الحقيقية في اليمن اليوم ليست بين شمال وجنوب، أو بين طائفة وأخرى، بل هي معركة بين الوعي والجهل، بين العقل والخرافة.
إنها معركة استعادة الكرامة الإنسانية التي تبدأ بتحرير العقل من أغلاله المقدسة. فركلة الوعي الأولى، مهما بدت بسيطة أو صادمة، هي الشرارة التي ستحرق غابات الخرافة،
وهي الخطوة الأولى في مسيرة استعادة اليمن المختطف إلى حضن أبنائه المفكرين، لا عبيد أصنامه.