رِدّة الأوطان: فلسفة مِحنة الوحدة اليمنية
منذ قرون، وفي لحظة فارقة من عُمر الزمان، انحبست أنفاس الجزيرة العربية وهي ترقب رحيل النبوة. لم يكن رحيلاً للجسد فحسب، بل كان اختباراً لصلابة الفكرة.
وفي تلك الفجوة الزمانية، خرج مسيلمة الكذاب بسجعه المتهافت: "والنهار والليل، والنهار الأدهم، والليل المظلم.. يا ساطعة يا مقدسة، أغيري على القوم بغير ممارسة".
كانت كلمات فارغة من الروح، ممتلئة بالضجيج، يظن فيها أنه يحاكي السماء بينما هو يغرق في وحل الأنا، تماماً كما هو حالنا اليوم في اليمن، حيث نعيش رِدّةً عن الوحدة اليمنية، تقودها ساطعات مقدسات زائفة من الشعارات والمناطقية.
إن ما يشهده اليمن اليوم من تشرذم سياسي وجغرافي ليس مجرد صراع على السلطة، بل هو استنساخ لسيناريو الردة في أعتى صورها الفلسفية.
فاليوم، تتعدد النبوات السياسية؛ فكل فصيل يرى في نفسه الحق المطلق، ويدعي أنه يحمل مفاتيح الخلاص.
ما بين مجلس انتقالي، وحوثي، ونخب حضرمية، وحراك تهامي، نجد أنفسنا أمام مسيلمة معاصر بأسماء مختلفة، يهتف بأتباعه خلف شعارات براقة لكنها تفتقد لجرس الحقيقة وموسيقى الوحدة،
تماماً كما كان مسيلمة يقول: "النهار أتانا في الليل، يصهل كصهيل الخيل، ويميل إلينا كل الميل"، كلمات لا تشبع جائعاً ولا توحد صفاً، بل تمعن في التضليل والنكوص عن ميثاق الجماعة.
لقد كانت الردة مؤامرة من القوى العظمى آنذاك؛ فالفرس لم يكتفوا باليمن عبر الأسود العنسي، بل بسطوا نفوذهم لدعم المرتدين في عُمان والبحرين وسواحل الخليج، محرضين القبائل على كسر هيبة المدينة لتظل طرق التجارة تحت سيطرتهم. وفي الشمال،
كان الروم يحرضون قبائل قضاعة والغساسنة ودومة الجندل، ويمدونهم بالدعم ليكونوا حائط صد ضد هذا الدين الجديد.
لقد كان القياصرة والأكاسرة يراهنون على أن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي النهاية، فدفعوا بوكلائهم في كل شبر من الجزيرة العربية لتمزيقها وتحويلها إلى كانتونات متصارعة، تماماً كما تفعل القوى الإقليمية والخارجية اليوم في اليمن،
حيث تتقاسم الأدوار لإبقاء الجسد اليمني مثخناً بالجراح، بعيداً عن كونه قوة موحدة تهدد حساباتهم الاستراتيجية.
إن الرؤية الفلسفية للتاريخ تخبرنا أن اليمن اليوم في أمسّ الحاجة إلى صديق يمني يمتلك حكمة أبي بكر، وخالد يمني يمتلك جسارة ابن الوليد.
نحتاج إلى قائد رباني يمتلك البصيرة ليقول للجميع: "والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه"، شخصية تتجاوز المناطقية والمذهبية، تعيد لحمة التاريخ وتفهم أن قوة اليمن في أزله لا في تجزئته.
فكما كانت الردة هي المخاض الذي ولدت منه أعظم دولة في التاريخ بعد أن قهر الصديق مؤامرات الفرس والروم وجمع شمل العرب،
فإن هذا التمزق هو المخاض الأخير قبل الولادة الجديدة، شريطة أن نكفر بسجعات مسيلمة الحديثة ونؤمن بيمن واحد، قلبه في صنعاء، ورئته في عدن، وعيناه في حضرموت والحديدة.
عادت سجاحُ وعادَ الزورُ والدجلُ
وفي الفيافي لهيبُ الردةِ اشتعلوا
قالوا لنا ساطعاتٌ في مقدسةٍ
والزيفُ يصهلُ والأهواءُ تنتحلُ
يا موطنَ العزِّ هل للصديقِ فيك يدٌ
تلمُّ شملاً عن التاريخِ ينعزلُ؟
نحتاجُ خالدَ مجدٍ في بواترهِ
حزمٌ يعيدُ بناءَ الروحِ إذ خذلوا
فرسٌ ورومٌ على الأطرافِ قد وقفوا
وكلُّ فرعٍ من الأوجاعِ يقتتلُ
لكنَّ قلبكَ يا أمَّ الدنا يمنٌ
يبقى عظيماً وإن غامت بهِ السبلُ