حين يصبح الخطر داخلياً: ترامب وتفكيك أميركا
لا توجد قوة عسكرية أجنبية قادرة على غزو الولايات المتحدة، فهي محمية بمحيطين شاسعين، الأطلسي شرقاً والهادئ غرباً، إضافة إلى حدود برية محصنة مع كندا والمكسيك،
فضلاً عن امتلاكها أقوى جيش وأحدث القدرات العسكرية في العالم. ميزانية الدفاع الأميركية هائلة، تقترب من تريليون دولار إذا احتُسبت المجالات الدفاعية والوكالات المرتبطة بها، وتستحوذ وحدها على نحو 40% من الإنفاق العسكري العالمي، متجاوزة ميزانيات الدول التسع التالية مجتمعة، بما فيها الصين وروسيا والهند. لذلك لا تخشى الولايات المتحدة تهديداً خارجياً تقليدياً قادراً على تقويضها. غير أن عوامل داخلية كتصاعد الانقسامات المجتمعية والسياسية والإيديولوجية تهددها منذ سنوات، وقد تفاقمت مع عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة.
في خطابه الثلاثاء الماضي في ولاية بنسلفانيا حول "تكاليف المعيشة" التي تثقل كاهل الأميركيين، ويصفها بأنها "خدعة"، حاول ترامب صرف الأنظار عن سياساته الاقتصادية الفاشلة وعجزه عن تنفيذ وعوده الانتخابية عبر مهاجمة المهاجرين والتحريض عليهم.
خطابه لم يكن مليئاً بالكراهية فحسب، بل وصف دولاً بأنها "حفر قذارة" (ترجمة مهذبة لمصطلح بذيء)، كما سبق أن نعت مهاجرين بـ"القمامة"، و"المغتصبين"، و"العصابات"، مستنداً إلى خطاب عنصري فجّ بعيد عن الحقائق.
ووفقاً له، يجب أن تتوقف الولايات المتحدة عن استقبال مهاجرين من "دول العالم الثالث"، مثل "أفغانستان وهايتي والصومال وغيرها"،
متسائلاً: "لماذا لا يكون لدينا بعض الأشخاص من النرويج، السويد؟ أرسلوا لنا بعض الأشخاص الطيبين. هل تمانعون؟ لكننا دائماً نأخذ أشخاصاً من الصومال، من أماكن هي كارثة، أليس كذلك؟ قذرة، وسخة، مثيرة للاشمئزاز، مليئة بالجريمة".
رغم هذا الخطاب التحريضي، لم ينبّهه أحد من مستشاريه إلى أن دولاً مثل النرويج والسويد، وأوروبا عموماً، تعاني من شيخوخة سكانية وتحتاج إلى مهاجرين.
فالمسنون فوق 65 عاماً يشكلون أكثر من 20% من سكان السويد، و19% في النرويج، بينما ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي، من بين الدول الخمس الأولى عالمياً في شيخوخة السكان،
إذ يُتوقع أن تبلغ نسبة من هم فوق 65 عاماً نحو ثلث السكان بحلول 2050. الولايات المتحدة نفسها ليست بمنأى عن هذه المعضلة، إذ تشير التقديرات إلى أن كبار السن سيشكلون حوالى 22% من السكان بحلول 2040، أي واحداً من كل خمسة أميركيين.
هذا الواقع يفرض على المجتمعات الغربية نفقات ضخمة للتأمين الصحي ورعاية المسنين والضمان الاجتماعي، ما يجعلها بحاجة إلى مهاجرين من "العالم الثالث"، الذين يتميزون بالشباب والخصوبة،
وإلا فستنهار اقتصاداتها ومجتمعاتها بفعل نقص الأيدي العاملة القادرة على تمويل رواتب المتقاعدين. ومن ثمّ، فإن الهجرة القانونية من هذه الدول مصدر قوة للغرب، لا ضعف.
لكن ترامب لا يعير ذلك اهتماماً، حتى لو أدركه. فقد جعل من العنصرية طريقاً إلى الثروة منذ ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، حين كان يبني تجمعات سكنية للفقراء والمتوسطين في بروكلين وكوينز في نيويورك قبل أن يصبح مطوراً عقارياً في منهاتن.
ومنذ إعلانه الترشّح للرئاسة عام 2015، اتخذ من الخطاب العنصري والتحريضي ضد الأقليات وسيلة للوصول إلى السلطة.
ومع عودته إلى الحكم مطلع هذا العام، جعل من التحريض بين مكونات المجتمع الأميركي وصفة لتبرير فشله، وهي وصفة مألوفة لدى الأنظمة الديكتاتورية في الدول الفاشلة لصرف الانتباه عن فسادها وعجزها.
خطاب ترامب ضد المهاجرين، خصوصاً الصوماليين واللاتينيين، خطير للغاية، وقد يقود إلى جرائم عنصرية، خصوصاً في ظل أجواء الانقسام التي تمر بها الولايات المتحدة.
ومن أبرز الأمثلة رسائل التهديد التي تتلقاها النائبة إلهان عمر من ولاية منيسوتا، ذات الأصول الصومالية، والتي جعلها ترامب هدفاً دائماً لتحريضه. كذلك فإن سياسات إدارة الهجرة وضباطها في التعامل مع المهاجرين،
فضلاً عن كونها غير إنسانية، فهي غير قانونية، إذ وصلت إلى حد استهداف مواطنين أميركيين بناءً على مظهرهم، حتى إن بعض الأميركيين من أصول صومالية في منيسوتا لا يغادرون منازلهم إلا وهم يحملون مستندات تثبت مواطنتهم.
أميركا اليوم أمام لحظة مفصلية ستحدد مستقبل قيمها المعلنة وديمقراطيتها ومكانتها العالمية. كثيراً ما فشلت الإدارات الأميركية في اختبار هذه القيم داخلياً وخارجياً،
كما في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، حيث لم تختلف إدارة جو بايدن الديمقراطية عن إدارة ترامب الجمهورية.
غير أن ترامب يقود أميركا نحو مسار أكثر خطورة، مستلهماً سياسات عنصرية متوحشة سادت قبل عقود وظنّت أميركا أنها تجاوزتها، لكنه يعيد إنتاجها بأسلوب فجّ يكشف حقيقتها.
والأهم أن الهجرة كانت دائماً مصدر قوة لأميركا وتفوقها، وإن توقفت فلن تخسر (أميركا) الأيدي العاملة الشابة والكفوءة فحسب، بل ستفقد أيضاً العقول المبدعة التي حافظت على تفوقها العالمي.
أسامة أبو ارشيد
كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن