
على "جبهة الفن اليمني"... لا هدنة مع المشروع الإيراني
لم تعد البيانات السياسية هي المعبر الوحيد الذي يملي شروط كتابه على الناس فارضاً عليهم قناعاته، فالعصر الحديث شهد بروز الفنون الساخرة والأغاني القصيرة التي لا تحتاج إلى عناء الإنتاج، لتصل برسائلها في وقت قياسي إلى قطاع واسع بمجرد ملامستها وجدان الناس وهمهم.
وفي بلد عرف بفنه المتنوع الغزير كان لا بد لليمنيين من أن يربطوا الغناء بكل ظروفهم السعيدة والحزينة، بالقدرة ذاتها في حبك النكات على واقعهم السياسي، من قبيل البلية المثيرة للسخرية والضحك،
فحضرت الفنون لتترجم هذا الارتباط المعبر عن الهم المبكي قبل المضحك بنتاجات انتشرت بين عامة الناس، حتى أضحت المعبّر عن مشاعرهم وهمومهم، خصوصاً وقد سهل الفضاء الرقمي الصاخب وسائطه البرقية للنشر وترجمة المشاعر على الفور وبلا رقيب.
وسبق الفن اليمني في مواجهة النظام الإيراني بعد أن أخفقت المواجهة العسكرية، وقبل أن يصبح "نظام طهران" مادة صحافية عالمية دسمة التناول إثر المواجهة بين طهران وإسرائيل منذ الأحداث التي تعيشها البلاد جراء الانقلاب الحوثي على الدولة والإجماع الوطني عام 2014،
بإصدار كثير من الأعمال التي سخرت من النظام الإيراني عبر أعمال جمعت بين الأغنية والموقف الكوميدي الساخر، وما يحويه من فنون التقليد وتقمص الشخصية،
وغيرها من الأعمال الكوميدية التي سببت للكيان المنقلب وجعاً واضحاً دفعه إلى إصدار سلسلة عقوبات غيابية على الفنانين، ناهيك عن حملات التكفير والتشويه، إضافة إلى سلسلة من التهديدات الصريحة بالقتل.
رسالة جواب
ويقول الفنان محمد الحاوري الذي اشتهر بأعماله الساخرة إن ما يقدمونه "رسالة وطنية وإنسانية، كأقل واجب تجاه بلادنا وأهلنا، عقب التدخل الإيراني بدعم الميليشيات الحوثية وما سببته منذ انقلابها من حرب ودمار وفقر وشتات وتهجير"،
مضيفاً "لم أتشرد عن بلادي إلا بسبب الحوثيين".
ويشير الحاوري إلى سلسلة من التهديدات التي تلقاها بسبب أعماله الفنية التي يقلد من خلالها عدداً من الشخصيات الحوثية وآخرها برنامج "هرجلة" الذي عرض خلال شهر رمضان الماضي على قناة الجمهورية التي تبث من مدينة المخا بالساحل الغربي، وهو من تقديم الإعلامية جيهان حكيم ومشاركة عدد من الفنانين منهم نجيب الغزي وعبدالمحسن المراني وتأليف بهاء الصليحي.
وعرف الحاوري بقدرته على تقليد الرئيس الراحل علي عبدالله صالح الذي قال إنه على رغم الضيق الذي أبداه مناصروه خلال احتجاجات عام 2011 إلا أنه لم يتلق تهديداً صريحاً بالتصفية إلا في عهد ميليشيات الحوثي،
مضيفاً "تصلني تهديدات من قبيل هذا ولي الله وليس فلان أو فلان"، مؤكداً أن الحوثيين حاولوا القبض عليه عام 2014 وبحثوا عنه في منزله وأماكن عمله قبل أن يتمكن من الهرب إلى عدن،
وهو "ما دفعني لكشف زيفهم وإجرامهم الذي يصل حد القتل لمجرد إبداء رأي ناقد لزعيمهم".
الجرح تعبير بالفن أيضاً
ولا يخفى الحاوري مقاومة اليمنيين للمشروع الإيراني في اليمن بالسلاح والتضحيات الجسيمة التي دفعوا من أجلها عشرات آلاف القتلى والجرحى وملايين النازحين والمشردين،
وحضرت أقلام الفنون وعدساته إلى حملة التداعي العام لمواجهة الانقلاب الحوثي القائم على فكرة "الحق الإلهي" في الحكم وفق مبدأ "الاصطفاء الإلهي" بالقوة.
ويرى الإعلامي والكاتب في الشأن الثقافي محمد الشلفي أن الفنانين اليمنيين هم الأكثر جرأة في مواجهة مشروع إيران بالتحدي والسخرية منذ عام 2014، على رغم تدخلها في اليمن قبل ذلك التاريخ،
ولكن حين أسقط الحوثيون صنعاء وصرح الإيرانيون بأن العاصمة العربية الرابعة صارت في قبضتهم، شعر اليمنيون بالخيانة والألم، وبخاصة الفنانين.
وفقاً للشلفي فقد "بدأت المقاومة بالفن والسخرية من كل ما يفعله الحوثيون، ومواجهة محاولتهم السيطرة على البلاد في الجانب الفكري، وفضح رموزهم وعلى رأسهم زعيمهم عبدالملك الحوثي الذي يحيط نفسه بهالة من القداسة كعادة الجماعات المتطرفة، مثل 'حزب الله' وغيره من الجماعات،
مما عرض الفنانين للتهديد بالتصفية من قبل هذه الجماعات وأنصارها".
هدم قداسة المرشد
ويشير الشلفي إلى تجربة الحاوري "الذي يعد أول فنان قلد ساخراً عبدالملك الحوثي وحسن نصرالله، وصولاً إلى المرشد الأعلى علي خامنئي،
وله السبق يمنياً وعربياً في ذلك عبر برامجه التلفزيونية مثل برنامج 'بلبلي' و 'هرجلة' وما يصوره على مواقع التواصل الاجتماعي في السياق اليمني، وعلاقتهم بدعم الحوثي وتثبيت انقلابه والإشراف على كل ما يقوم به وما يصدره إلى خارج اليمن خدمة لأطماع إيران".
كما يتطرق الإعلامي الشلفي إلى تجربة بارزة أخرى للفنان محمد الأضرعي الذي "كان له دور كبير في السخرية من إيران على طريقته الخاصة، وإن لم يقلد خامنئي أو الزعماء الآخرين الذين يتدخلون في اليمن لدعم الحوثي،
إلا أنه ركز خلال برنامجه 'غاغة' على انتقاد الحوثي وشعار الصرخة الذي هو بالمقام الأول شعار إيراني، وكذلك الأعياد والمناسبات التي نقلها الحوثي من إيران مثل الحسينيات وعيد الغدير والولاية".
وبحسب الشلفي فقد سخر الأضرعي "ممن يدعمون أو يؤيدون الحوثي في القنوات التلفزيونية فكانت له شخصية اشتهرت بـ 'المعرجاني' والتي تسخر من محاولات الحوثي نقل الحسينيات والثقافة الفارسية إلى اليمن، وهي فعاليات وأفكار دخيلة ولا يتقبلها المجتمع"،
ويرى أن هذه الشخصية "نجحت وكان لها جمهور ليس في اليمن فقط بل على مستوى الوطن العربي وبخاصة عند المتضررين من السلوك العدواني لإيران، ومحاولة نشر الطائفية في بلدانهم بهدم الدول الوطنية".
الحاجة لا السخرية
ويرى الشلفي أن الفنانين اليمنيين في سخريتهم من نظام الملالي في إيران انطلقوا "من معاناة كرد فعل على ما تفعله إيران باليمن ومشروعها الذي كانت نتيجته إسقاط الدولة وتشريد اليمنيين، لتتحول البلاد إلى دولة فاشلة تصنف اليوم بأنها الأكثر معاناة من المجاعة على مستوى العالم،
وهذه النتاجات أظهرت شجاعة وجرأة غير مسبوقة من قبل الفنانين أسهمت في كسر هيبة الحوثي والنظام الإيراني اللذين أسهما في زيادة معاناة اليمنيين".
وأظهرت المواجهات بين إسرائيل وإيران أخيراً "سخرية عربية اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي من النظام في إيران بسبب ضعفه أمام إسرائيل، وانكشاف التناقض بين ما كان يصرح به ويظهره من قوة، وهي سخرية وجدت فرصة للخروج والانتباه لها،
بينما وجد الفنانون اليمنيون فرصتهم منذ سقطت عاصمتهم بدعم إيراني وحتى اليوم، كمعركة موازية إلى جانب معركة السلاح".
والفنون كما هو معلوم فعل مقاوم يلتصق عبر معارك التاريخ بالرصاصة والتحشيد الذي تحمله للجماهير،
ومن هذا المنطلق يرى الشلفي أن الفن اليمني "يمثل جبهة مواجهة للحوثي، إذ حافظ على جذوة مقاومة المشروع الخطر على اليمن والمنطقة، كما مثل دعماً نفسياً لمن يعيشون تحت سيطرة الحوثي وهم يرفضون حكمه، لكنهم يخافون من التعبير،
وهي مواجهة فنية لم تتأثر بدعوات السلام، بخاصة وأنها معركة فكرية ثقافية من الطراز الأول، مثلما لم يتوقف الحوثي ومن ورائه إيران عن السيطرة على اليمن وتجريف هويته وثقافته العربية".
مقاتل لمقاومة الاستبداد الديني
ويؤكد الكاتب فتحي أبو النصر أن المشهد اليمني برز فيه اسم الفنان محمد الأضرعي "كأحد أعمدة الكوميديا الساخرة وأكثر الأصوات تأثيراً في مواجهة الانقلاب الحوثي،
معتبراً أن "الأضرعي يتعدى مجرد الفنان إلى كونه معلماً قاد أجيالاً من الكوميديين لاستخدام السخرية أداة لمقاومة الاستبداد الديني والسياسي، وكرصاصة توجه مباشرة إلى قلب الاستبداد الطائفي الذي فرضه الحوثيون على اليمن"،
وخلال الأعوام الـ 10 الماضية اشتهر الفنان محمد الأضرعي بتقديم أعمال تحمل طابع مونولجياً يحاكي الشخصيات الحوثية وزعماء الميليشيات ويفند مزاعمهم الدينية والسياسية التي يسرد تناقضها الصارخ مع واقع اليمنيين.
وعن ذلك يقول أبو النصر إن "ما يقدمه الأضرعي أسلوب فريد يجمع بين السخرية الحادة والتوعية السياسية والدينية، مما يجعله واحداً من أعمدة المقاومة الفنية والثقافية في وجه جماعة ترى في نفسها الطليعة الدينية،
لكنها في الحقيقة، كما يكشف الأضرعي في مشاهداته، تحمل أكبر تناقضات الواقع،
وفي إطار الكوميديا يحول الأضرعي الزعماء الحوثيين إلى شخصيات كاريكاتورية هزلية، فيسخر من خطبهم وتحركاتهم ومنظوماتهم الفكرية، ويعيد صياغة تلك التصرفات بطريقة تبين للناس سخافة أفكارهم ومعتقداتهم".
توفيق الشنواح
صحافي يمني