فشل الأمّة في نصرة غزة: بين التشويه والتبعيّة
خلال تاريخها، مرّت الشعوب العربية والإسلامية بتجارب تاريخية قاسية، شكّلت جزءاً كبيراً من فشلها في نصرة قضاياها العادلة.
ولكن فشل الشعوب العربية والمسلمة في نصرة قضية فلسطين، إزاء ما تتعرّض له غزة اليوم من مجازر على مدار الساعة وحرب إبادة تبثّ على الهواء مباشرة، ظاهرة تشكّل صدمة ممّا وصلت إليه الأمّة من غياب لردة الفعل أشبه ما تكون بالموت السريري.وللوقوف على هذه الظاهرة ومحاولة معالجتها، لا بدّ بداية من إدراك الأبعاد التاريخية التي أوصلت الحال إلى ما هي عليه، والوسائل والاستراتيجيات المتّبعة في تخدير الشعوب.
تاريخياً، يأتي الاستعمار وما نتج عنه من تقسيم للمنطقة على رأس الأسباب؛ شكّل الاحتلال العسكري لبلادنا، بعد سقوط السلطنة العثمانية، بداية الضربة الكبرى لمفهوم الأمة الذي كان يجمع هذه الشعوب تحت راية واحدة، إذ عمدت القوى الاستعمارية إلى تفتيت الوحدة السياسية والجغرافية بهدف بسط سيطرتها.
وتلا ذلك تواطؤ الأنظمة العربية، التي رغم استقلالها الشكلي، ظلّت تابعة بشكل أو بآخر للمصالح الغربية الاستعمارية. ولم تقتصر التبعية على المستوى السياسي فقط، بل شملت أيضاً هيمنة ثقافية واقتصادية، أضعفت من قدرة هذه الأنظمة على تحقيق استقلال حقيقي لشعوبها.
ففي سبيل إقامة الدولة القطرية التابعة للغرب، في الواقع العربي والإسلامي، عمد الاستعمار إلى تفتيت ثلاث منظومات مجتمعية أساسية مكّنت شعوب أمتنا من مواجهة تحديات كبيرة سابقة والتغلب عليها، ومنها الغزو المغولي وحروب الإفرنجة (الصليبيين).
هذه المنظومات هي: التعليم والقضاء والأوقاف. إن فقدان مجتمعاتنا إدارتها وتحكّمها بهذه المنظومات، وجعلها تابعة للسلطة القائمة، أفقدا المجتمعات الاستقلالية المطلوبة في إعادة بناء ذاتها وحماية وحدتها الداخلية.
إلى جانب هذه التبعية، لعبت الديكتاتورية دوراً حاسماً في قمع إرادة الشعوب. فقد اعتمدت الأنظمة القمعية على إسكات كل صوت يطالب بالحرية والعدالة، مستخدمة وسائل الترهيب والملاحقة الأمنية.
وخلال العقدين السابقين، وبعد الاندحار الصهيوني من جنوب لبنان والفرار من غزة، أصبحت المقاومة هدفاً للتشويه؛ فقد سعت الأنظمة المتحالفة مع الغرب إلى ضرب فكرة المقاومة نفسها عبر التشكيك في جدواها، والترويج لفكرة أن المقاومة تسبب الكوارث والدمار للشعوب، بسبب الرد العنيف من العدو، الذي لم يكن إلا نتيجة طبيعية للاحتلال والقمع.
وقد ساهم الإعلام الموالي للسلطات في تعزيز هذا الخطاب، وتحميل الضحية مسؤولية جرائم الجاني، مستعيناً ببعض رجال الدين وبأنصاف المثقفين لتشويه صورة المقاومة.
هذا التشويه لم يقتصر على وسائل الإعلام التقليدية، بل امتدّ إلى الفضاء الإلكتروني حيث استخدمت الأنظمة ما يُعرف بـ«الذباب الإلكتروني» لتضليل الشعوب وإثارة الشكوك حول جدوى المقاومة، متجاهلة الإنجازات الكبيرة التي حقّقتها على مدار سنوات في أكثر من جولة من المواجهات مع العدو.
أثبتت المقاومة أنها قادرة على فرض تحديات وجودية على العدو وإحراجه على الساحة الدولية، إلا أن حملات التشويه المدروسة نجحت في تحييد الكثير من الدعم الشعبي لهذه المقاومة، خصوصاً أنّ الأنظمة الحاكمة وجدت في هذه الإنجازات تهديداً لمشاريعها بدلاً من الاستثمار فيها لتعزيز أوراقها.
من جهة أخرى، رُوِّج لمشاريع خطيرة مثل «الديانة الإبراهيمية» التي تسعى إلى تحريف الإسلام وتقديم نسخة متماهية مع مصالح القوى الاستعمارية.
تهدف هذه المشاريع إلى إضعاف العقيدة الإسلامية من خلال تقديم تصورات مشوّهة للدين، وإلباس الحق بالباطل، بما يخدم خطط العدو ويقلّل من قدرة الأمة على الدفاع عن هويتها ودينها. من كان يتصور قبل بضع سنين أن يخرج من بين المسلمين من يشكّك في قدسية المسجد الأقصى المبارك، مثلاً؟
من اللافت أن الجاليات العربية والمسلمة في الغرب كانت قادرة على التحرك بحرية أكبر، واستطاعت أن تؤثّر في الرأي العام الغربي من خلال تنظيم احتجاجات وتظاهرات دعماً للقضايا العربية والإسلامية، إلا أن الشعوب في المنطقة نفسها كانت مكبّلة بقيود الأنظمة التي تمنع أي تحرك شعبي يهدد استقرارها.
أمّا من حيث الوسائل والاستراتيجيات، فقد استخدمت القوى المتآمرة على الأمة خططاً مختلفة ومتنوعة لإحباط الشعوب، من بينها إشعال الصراعات العرقية والمذهبية، وتوجيه العداء نحو إيران، التي تقدّم الدعم العسكري والمالي والتقني للمقاومة، فيما تقوم بعض الأنظمة بفكّ الحصار عن الكيان.
عمدت بعض الأنظمة إلى إذكاء الفتن بين الطوائف، بهدف تفتيت الوحدة المجتمعية وإضعاف قدرتها على التصدي للأخطار الخارجية. زاد فشل ثورات «الربيع العربي» في تحقيق أهدافها من تفاقم هذه الأوضاع، حيث استغلت الأنظمة هذا الفشل لتكريس سلطتها والترويج لفكرة أن الثورة والتغيير السياسي لا يؤديان إلا إلى الفوضى.
على الصعيد الحزبي، فشلت الأحزاب العربية على اختلاف توجهاتها في تقديم رؤية سياسية ناضجة تحقّق تطلعات الشعوب. عجزت الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية، غير المرتبطة بفلسطين، عن تجاوز أيديولوجياتها الضيقة، وباتت جزءاً من النظام السياسي القائم، وفاقدةً للقدرة على التحرك أو قيادة الشارع نحو التغيير.
كما عمدت بعض الأنظمة المرتبطة بمشروع التطبيع في المنطقة إلى إذكاء الصراعات الدموية، وإدخال المجتمعات في البلدان التي تتمسك بالمقاومة وترفض التطبيع في معارك داخلية دموية، مستعينة بتشكيل الميليشيات المسلحة ونهب الخيرات، إضافة إلى إفقار الشعوب عبر الضغط المالي والاقتصادي لإلهائها بمتطلبات الحياة اليومية، وإشغالها عن التفكير في القضايا الكبرى، فضلاً عن المشاركة في أي فعل جدّي للتغيير.
وفي بلدان أخرى، سعت الأنظمة القائمة إلى اتباع سياسة الإلهاء والتفاهة عبر الترويج لبرامج ترفيهية هدفها إثارة غرائز فئة الشباب تحديداً، وسلخ المجتمعات عن حضارتها وعاداتها وشريعتها، ولو كان ذلك عبر اتّباع عقيدة الصدمة الحضارية، ما أفقد هذه المجتمعات توازنها، ووضعها على حافة الانقسام العمودي، استبقته تلك السلطات باعتقال العلماء والمفكّرين والزجّ بهم في السجون.
تكمن المشكلة الكبرى في غياب القيادة الشعبية الملهمة، حيث تفتقر الشعوب العربية لشخصيات قادرة على توجيهها وقيادتها في أوقات الأزمات. هذا الغياب القيادي ترك الساحة مفتوحة أمام الأنظمة القمعية لتعزز سيطرتها واستغلال غياب البدائل السياسية الحقيقية.
كما تراجع دور المثقف العربي، الذي كان يوماً ما عموداً فقرياً في النضال ضد الاستعمار والقمع، بشكل كبير. الخوف من الملاحقة الأمنية، والانقسامات الفكرية بين النخب، وتراجع الأيديولوجيا، كلها عوامل ساهمت في تهميش المثقف وجعله بعيداً عن التأثير. بالإضافة إلى ذلك، فقد المجتمع ثقته في النخب الثقافية التي انشغلت بمصالحها الشخصية، وافتقدت للرؤية الواضحة، وتحالفت في كثير من الأحيان مع الأنظمة نفسها.
ما السبيل إلى المواجهة؟
لمواجهة هذه التحدّيات، لا بدّ من اتخاذ مجموعة من الخطوات. بداية، يجب إعادة إحياء مفهوم الأمة من خلال تعزيز الهوية العربية والإسلامية المشتركة، وتجاوز الخلافات التي زرعها الاستعمار. هذا يستدعي إيجاد حلول للعلاقة بين المجتمعات وأنظمتها القمعية، بما يمكّن المجتمعات من إعادة إمساك زمام المبادرة.
وفي هذا الإطار، ربما يكون من المجدي إعادة إنتاج منظومات تعليم وقضاء وأوقاف مستقلة عن السلطات التابعة للغرب، وتقاد مجتمعياً، مثلما كان الحال في مجتمعاتنا دوماً، قبل الاستعمار.
كما يجب العمل على إعادة الاعتبار إلى صورة المقاومة، ودعمها فكرياً وإعلامياً، وإعادة الاعتبار إليها كحركة أصيلة تعبّر عن روح الأمة، ومواجهة حملات التشويه عبر حملات إعلامية مضادة، تكون مبنية على حقائق ووقائع ميدانية تُبرز إنجازات المقاومة وتأثيرها الإيجابي على القضية الفلسطينية بشكل خاص، وعلى مستقبل الأمة بشكل عام.
لمواجهة هذا التشويه، فإنه من الأهمية بمكان عرض الحقائق الواضحة، بين محور المقاومة الذي يقدّم الدماء والسلاح والمال ويخوض الاشتباك مع العدو في أكثر من ساحة، والأنظمة التي تقدّم الدعم للكيان، عبر فتح معابر توفّر له ما يحتاج إليه، بل والتواطؤ معه في فرض الحصار والتضييق على الشعب الفلسطيني، وصولاً إلى المشاركة في مخططات سياسية لقمعه وتصفية قضيته.
وكذلك لا بد من التصدي لمشاريع تحريف الدين، مثل «الإبراهيمية»، وهذا يتطلب نشر الوعي الديني الصحيح، والتمسك بالمفاهيم الإسلامية التي تعزز الوحدة والتضامن في وجه الأخطار الخارجية. وفي هذا السياق، ينبغي تعزيز دور العلماء الذين يرفضون الانحرافات الفكرية، وتأمين الحماية المجتمعية لهم في وجه السلطات القمعية.
وكذلك، من المفيد بناء جسور بين قوى المقاومة والجاليات العربية والمسلمة في الغرب، فهي تشكّل فرصة كبيرة لدعم القضايا العربية والإسلامية على الصعيد الدولي. يجب التواصل مع هذه الجاليات بشكل أفضل، وتشكيل جماعات ضغط قوية تستطيع التأثير في الرأي العام الغربي. يمكن للتعاون مع جمعيات ومؤسسات وقوى الضغط الداعمة للقضية الفلسطينية، أن يعزز من حراك مجتمعي فاعل شعبياً.
أمّا على صعيد الصراعات العرقية والمذهبية، فلا بدّ من تكثيف الجهود لإطفاء هذه الصراعات من خلال حوارات جامعة تعزّز من روح التعايش والتعاون، وتكشف الأدوار المشبوهة التي يقوم بها علماء السلاطين في زرع بذور الفتنة المذهبية، ودورهم في تشويه صورة المقاومة، وحرف الصراع الحقيقي مع الكيان الصهيوني وتحويل الصراع الى صراع داخلي ومذهبي.
وختاماً، فإن إعادة بناء الأحزاب السياسية باتت ضرورة حتمية؛ إذ يجب أن تقدّم هذه الأحزاب رؤية سياسية واقعية تخدم مصالح الشعوب وليس المصالح الفئوية الضيقة. وفي ظل غياب القيادات الشعبية الملهمة، لا بد من الاستثمار في الشباب وتأهيلهم للقيادة، ليكونوا قادرين على تقديم نموذج ناجح لقيادة الأمة نحو التحرر والتقدم.
* معين الرفاعي - باحث وسياسي فلسطيني