
دمشق المُنهكة... زحام وفقر وبنية تحتية مدمّرة
تظهر ملامح الإهمال في كل حي وفي كل حارة من حارات دمشق التي تحمّلت على مدى سنوات الحرب ضغطاً سكانياً غير مسبوق، إذ كانت الملجأ الوحيد للسوريين الهاربين من تبعات الحرب في 14 عاماً، ما انعكس على المدينة التي تعد إحدى أقدم مدن العالم، والتي باتت مكتظة بالسكان القادمين من كل المحافظات، بينما البنية التحتية فيها منهكة، وشوارعها تغص بالشحاذين الذين دفعتهم ظروف قاهرة إلى التسول.
تطوّق دمشق أحياء عشوائية بُنيت على مدار 50 عاماً بتسهيلات من النظام البائد، لتضم القادمين من المدن والبلدات السورية بحثاً عن فرص أفضل للحياة والعمل، حتى باتت هذه الأحياء عبئاً على العاصمة،
ويبدو أن تفكيكها مهمة شبه مستحيلة، فالأمر يتطلب إمكانات كبيرة، وبيئة تشريعية لا يبدو أن البلاد مؤهلة لها، في المدى المنظور على الأقل.
وخلال سنوات الحرب، زادت هذه الاحياء اكتظاظاً بالفقراء وصغار الكسبة، فطفت على السطح أزمات اجتماعية لم تكن تعرفها دمشق، إذ زادت نسب الجريمة، وزادت تجارة المخدرات وتعاطيها، خصوصاً بين شباب عاطلين .
وبالتزامن مع تردي دمشق، تدنّت فرص العمل في بقية المحافظات السورية، أو انعدمت، خلال سنوات الحرب، سيما التي شهدت عمليات قصف ممنهج، أو سيطرت عليها تنظيمات متشددة مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ما اضطر كثيرين من سكانها إلى الاتجاه إلى دمشق، ما أدى إلى تكدس بشري كبير في عدة أحياء عشوائية تكاد تفتقر إلى الحدود الدنيا من الخدمات،
وفضلاً عن التكدس البشري، تشهد شوارع العاصمة اكتظاظاً بالسيارات القديمة والمتهالكة، مع اهتراء البنية التحتية والطرق التي لم يعمل النظام السابق على تأهيلها أو صيانتها طيلة سنوات.
يعزو الباحث الاجتماعي بسام السليمان أسباب الاكتظاظ والزحام في دمشق إلى أنها عاصمة، ومن الطبيعي أن تكون مكتظة.
يقول : "بعد تحرير البلاد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، تحولت العاصمة إلى قبلة لشرائح واسعة من السوريين، فضلاً عن عودة أعداد كبيرة من أبنائها المغتربين.
فرص العمل عادة ما تكون أوسع في العواصم، ما يفسر قدوم عدد كبير من أبناء المحافظات إلى دمشق للبحث عن فرص عمل مناسبة في ظل ارتفاع الأسعار وتضخم تكاليف الحياة".
يضيف السليمان: "عدد السيارات في دمشق، وفي سورية عموماً، قليل مقارنة بالدول المجاورة، لكن البنية التحتية المخصصة للسيارات، من طرق ومواقف وكراجات، ضعيفة، لهذا يظهر الزحام في العاصمة بهذا الشكل.
كان النظام يتعمد إبعاد السوريين بعضهم عن بعض، ما أدى إلى خلق تصورات مسبقة خاطئة عن الآخر. أعتقد أننا بحاجة إلى هندسة عكسية للمجتمع، والخراب الاجتماعي الذي خلقه النظام البائد خلال 54 سنة يحتاج إلى وقت طويل للتخلص منه".
وعاد إبراهيم الحسن من السعودية بعد غياب أكثر من عشر سنوات، ويقول : "لم يكن في دمشق هذا العدد الكبير من الشحاذين حين غادرتها،
يبدو أن عائلات كاملة قادمة من محافظات أخرى باتت تمتهن الشحاذة في العاصمة لكسب الرزق، وربما دُفعت هذه العائلات إلى ذلك بسبب انعدام فرص العمل وعدم اكتراث النظام البائد بالسوريين، إذ كان همّه الاحتفاظ بالسلطة.
من يقتل الملايين ويهجّرهم لن يهتم بوضع سياسات لمساعدة المعوزين والفقراء والنازحين".
يضيف الحسن، وهو مختص في علم النفس: "ظاهرة الأطفال الشحاذين لم تكن منتشرة في دمشق قبل عام 2011، وهي من الأمور المحزنة.
مئات الأطفال الصغار ينتشرون في الشوارع كي يشحذوا من المارّة بشكل مباشر من خلال استدرار تعاطف الناس، أو غير مباشر من خلال بيع العلكة والبسكويت.
النظام البائد خلّف تركة اجتماعية تفوق في خطورتها على مستقبل البلاد التركة الاقتصادية والسياسية الثقيلة، ولدينا شريحة واسعة من الأميين ومتعاطي المخدرات، وانعدام فرص العمل دفع خريجي جامعات للعمل إما في المطاعم أو سائقي سيارات أجرة .
وتتمركز في العاصمة دمشق كل الوزارات والمؤسسات الحكومية وغالبية شركات القطاعين العام والخاص، ما يشكّل ضغطاً كبيراً على مرافق المدينة، التي تشير التقديرات إلى أن عدد سكانها يبلغ نحو خمسة ملايين نسمة،
ويزداد العدد خلال ساعات النهار نتيجة قدوم سوريين كثيرين لغايات منها العلاج أو مراجعة المؤسسات الحكومية، لا سيما أن الكثير من المدن تفتقر إلى وجود مستشفيات أو مراكز طبية متقدمة.
وقبل عام 2011، طُرحت فكرة اعتماد مدينة حمص في وسط البلاد عاصمة إدارية لتخفيف الضغط عن دمشق، لكن النظام السابق لم يمض بهذه الخطوة، لكنها حضرت مجدداً بعد إسقاط النظام في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
ويرى الباحث في مجالات الحوكمة، زيدون الزعبي، أن "موقع حمص يسمح لها بأن تكون عاصمة إدارية تنتقل إليها الكثير من الوزارات والمؤسسات"،
ويوضح أن "هذه الخطوة تتيح توزيع الموارد بشكل عادل بدل تركيزها في العاصمة. يمكن تحويل حمص إلى عاصمة إدارية، وحلب إلى عاصمة اقتصادية، وإيلاء دير الزور (شرق) واللاذقية (غرب) مكانة متميزة،
ما قد يعزّز مفهوم السلم الأهلي، ويخفف الضغط على دمشق التي تفتقر إلى إمكانية التوسع أنها محكومة بحدود طبيعية، مثل جبل قاسيون والغوطتين الشرقية والغربية".
محمد أمين
صحافي سوري