لماذا أرادوا تدميرها؟ كيف أصبحت سوريا في عين العاصفة؟
سعى المحافظون الجدد الأميركيون إلى تدمير سوريا وإعادة رسم خرائط المشرق العربي لتتماشى مع المصالح الأميركية. نشأت هذه الرغبة في أعقاب الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، حيث بدأ هؤلاء بتطوير رؤية لما سُمّي بـ "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، الذي يستند إلى إضعاف وتفتيت أو تغيير الأنظمة التي تُعدّ معادية أو تمثّل تهديداً محتملاً لمصالحهم الإمبريالية. وقد كانت سوريا، بمواقفها المبدئية المناهضة للسياسات الصهيونية ودعمها الشجاع لمحور المقاومة، من بين الأهداف الرئيسية في هذه الخطة، التي تحوّلت إلى حرب عالمية على سوريا.
أدّت سوريا دوراً حيوياً في توفير الدعم اللوجستي لحزب الله، كونها حلقة وصل استراتيجية بين إيران ولبنان، مما يضمن استمرار خطوط الإمداد بين الطرفين. وبالتالي، فإن تدمير سوريا كان يعني تلقائياً إضعاف حزب الله وقطع شريان لوجستي حيوي له. كما أن إضعاف سوريا يؤدي في الوقت نفسه إلى تضييق الخناق على إيران، حيث يتمّ عزلها سياسياً وجغرافياً في المنطقة، مما يضعف من قدرتها على دعم حلفائها في العالم العربي.
يُعدّ دعم سوريا الواضح لحركات المقاومة الفلسطينية وسعيها لتحرير مرتفعات الجولان، التي تُعدّ منطقة استراتيجية تتيح للكيان تأمين عمقه الاستيطاني، تهديداً استراتيجياً للكيان الصهيوني. ومن هنا يعمل الكيان على إضعاف الجيش العربي السوري ومنع وجود تهديد عسكري حقيقي على الكيان من جهة الشمال.
وقد شكّلت سوريا نموذجاً للتنوّع الطائفي والعرقي الذي يضم الكرد والعلويين والسنة والمسيحيين. فاستُغلّ ذلك لزرع الفتن والعمل على تقسيمها إلى مناطق طائفية، تُضعف وحدتها الداخلية وتقوّض احتمالات نشوء دولة موحّدة مركزية قوية، ولخلق توازنات إقليمية جديدة تعزّز التحالفات لصالح حلف الأعداء وتمنع بروز تحالفات قوية تهدّد مصالحهم.
لم تكن سوريا بعيدة عن المصالح الأميركية الطامحة للسيطرة على موارد الطاقة وممراتها الحيوية. فموقع سوريا الجغرافي المميّز يمثّل بوابة استراتيجية تربط بين دول النفط في الخليج وأوروبا، وبين آسيا وأوروبا. فمن خلال زعزعة استقرار سوريا والسيطرة عليها، كانت الولايات المتحدة تطمح للتحكّم بمسارات الطاقة في المنطقة، بما يخلق منافسة مع النفوذ الروسي في سوق الطاقة العالمية ويمنع روسيا من استخدام خطوط نقل الطاقة داخل سوريا كوسيلة للضغط على أوروبا. إضافة إلى ذلك، فإن السيطرة على سوريا تعني منع إيران من الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، وهو منفذ استراتيجي تسعى إيران للاستفادة منه لتعزيز تجارتها في النفط والغاز.
ومن جانب آخر، سعت الولايات المتحدة إلى إضعاف النفوذ الروسي في المنطقة، حيث تُعدّ سوريا حليفاً استراتيجياً لروسيا. تحتفظ موسكو بقاعدة بحرية في طرطوس، القاعدة الروسية الوحيدة على البحر المتوسط، وبالتالي، إضعاف سوريا يعني تقليص الوجود العسكري الروسي في المتوسط، مما يمنح الولايات المتحدة وحلفاءها فرصة لتوسيع نفوذهم وسيطرتهم، ويوجّه ضربة كبيرة لاستراتيجية موسكو ويعزّز النفوذ الغربي على حساب مصالح روسيا.
وقد رافقت كل هذا حملة تضليل إعلامي مكثفة، غربية وعربية، حيث استُخدمت وسائل إعلامية واسعة النفوذ، بما فيها قناتا "الجزيرة" و"العربية"، لتشويه صورة النظام السوري بهدف كسب تأييد الرأي العام العربي والدولي وتبرير التدخلات العسكرية الخارجية. عندما بدأت الاحتجاجات الشعبية السلمية في سوريا، سرعان ما تحوّلت إلى صراع مسلح بسبب التدخّلات الصهيوغربية وتواطؤ بعض الدول العربية، وبدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بفرض عقوبات اقتصادية مشددة على سوريا، بهدف زيادة الضغط على النظام.
قام معسكر الأعداء بتشكيل وتسليح فصائل إرهابية مسلحة مثل تنظيم "داعش" لتدمير سوريا والعراق، وقدّمت تركيا ودول الخليج دعماً لوجستياً لهذه الفصائل لخلق ذريعة للتدخّلات العسكرية الأجنبية تحت غطاء محاربة الإرهاب. واستمر الغرب في تغذية هذا التنظيم الإرهابي، مما سمح لأميركا بتثبيت وجودها العسكري بذريعة القضاء على الإرهاب، بينما هي تسعى إلى تعزيز مصالحها الاستعمارية في المنطقة.
إلا أن الدولة السورية صمدت بقوة رغم الخسائر الهائلة بفضل دعم حلفائها، إذ قدّمت روسيا دعماً جوياً وعسكرياً كبيراً، وأسهمت إيران عبر مستشاريها العسكريين وحزب الله في تمكين الجيش السوري من استعادة العديد من المناطق التي خسرها ومواجهة الجماعات الإرهابية المسلحة. كما اعتمدت سوريا على استراتيجيات عسكرية خلّاقة تمثّلت في الحفاظ على المدن الكبرى والمحاور الاستراتيجية، فتم الحفاظ على دمشق وحمص تحت راية الدولة السورية، وتمت استعادة حلب في معركة مفصلية مثّلت نقطة تحوّل أساسية في مسار الحرب السورية.
شكّل تدخّل حزب الله في المعارك نقطة بارزة في مسار الحرب، حيث تمكّن الحزب من خلال تنسيقه مع الجيش السوري من إضعاف الجماعات الإرهابية عبر معارك حامية أدت إلى دحرها وتأمين العاصمة دمشق وحمايتها من التهديدات المباشرة.
واجهت سوريا أزمة كبرى من جراء العقوبات الاقتصادية الجائرة التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. جابهت الدولة السورية هذا التحدي باستراتيجيات خلّاقة للالتفاف على العقوبات، من خلال تعزيز الإنتاج المحلي قدر الإمكان، والتركيز على الصناعات الزراعية والحرفية لتلبية احتياجات الشعب. كما ساهم الدعم الإيراني والروسي في توفير جزء من الاحتياجات الأساسية مما ساعد في الحد من تداعيات الحصار الاقتصادي على المجتمع السوري.
تعزّز التحالف الاستراتيجي بين سوريا وإيران بفعل الحرب، وعمل البلدان بشكل متكامل لدعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية. وعلى مرّ السنوات، أضحت سوريا ممراً لوجستياً لإيصال الدعم إلى حزب الله والفصائل الفلسطينية، مما جعلها أحد الأعمدة الأساسية لمحور المقاومة.
ورغم الضربات الصهيونية المتكررة، استمر الدعم اللوجستي والعسكري بالوصول إلى المقاومة اللبنانية، مما أفشل محاولات تحجيم الوجود الشرعي الإيراني وإضعاف حزب الله. أدى هذا التماسك بين أركان محور المقاومة إلى تزايد قدرات وإمكانيات المحور في مواجهة الهيمنة الصهيوغربية.
في النهاية، رغم الضغوط والعقوبات والتحديات، بقيت سوريا ملتزمة بدورها الاستراتيجي، ولم تتراجع عن دعم حركات المقاومة. فقد أثبتت سوريا للعالم أن الدول التي تتمسك بسيادتها واستقلالها قادرة على مواجهة التحديات، وأنها في محور المقاومة تشكّل قوة ثابتة تزعزع مشاريع الهيمنة وتقاوم مخططات التفتيت.
اليوم، أصبحت سوريا نموذجاً للصمود في وجه المخططات التي تستهدف تمزيق المنطقة، وباتت تبرهن أن النصر على الصهيوغربي ممكن بفضل وحدتها ودعمها للمقاومة. ومع تحوّلات العالم نحو التعددية القطبية، ازداد محور المقاومة قوة، وبدأ المشروع الإمبريالي في التراجع.
فالتركيز على "الاستبداد"، كما يفعل البعض، في مهاجمة سوريا ليس سوى ستار يُخفي نية إضعاف موقفها الراسخ في دعم فلسطين والتصدي للمشاريع الاستعمارية، وهو قناع يُستغل لتبرير التدخلات التي لا تخدم سوى الكيان الصهيوني والقوى الغربية الاستعمارية.
اليوم، الأولوية هي الحفاظ على وحدة سوريا وصمودها كجزء أساسي من محور المقاومة، وضمان سيادتها دون إملاءات خارجية. الإصلاحات الحقيقية تأتي من إرادة الشعب السوري لا من أجندات أجنبية. وبذلك، فإن سوريا، بصلابتها وشراكتها مع قوى المقاومة، تقترب من تحرير كامل أراضيها وتبثّ الأمل في تحقيق النصر، حيث يبقى المستقبل مفتوحاً لإعادة بناء دولة حرّة تساهم في رسم مستقبل أفضل للمنطقة بعيداً عن الهيمنة الأجنبية.
ميشال شحادة
خبير في الشؤون السياسية.