الحلقة السورية في الحرب الأميركية – الصهيونية
على أهمية "طوفان الأقصى" وملحمته التاريخية الكبرى ودوره في كسر العنجهية الصهيونية وإهانة عسكريتها، وتعطيل الاتفاقيات الإبراهيمية، وعلى أهمية الدور الإسنادي الكبير لحزب الله والقوات اليمنية وأنصار الله والمقاومة العراقية وقوى المحور عموماً، إلا أن كل ذلك ليس سوى محطة في صراع طويل، ولم يكن السبب الحاسم وراء الذرائع الأميركية – الصهيونية وعمليات القتل الهمجية وحملات الإبادة الجماعية ضد النساء والأطفال والمدنيين عموماً، والمدارس والمستشفيات والمساجد والكنائس في غزة ولبنان.
كما أن ما جرى ويجري منذ "طوفان الأقصى"، أكبر من صراعات ثنائية بين العدو والكتل الحيوية من الأمة في فلسطين ولبنان ومقاومتهما الباسلة، وبالمثل الحلقة السورية من مسلسل الاعتداءات الصهيونية – الأميركية، أولاً عبر تحضير مسرح العمليات الميداني بقصف صهيوني على مواقع الجيش السوري وفصائل المقاومة المختلفة، من تدمر إلى محيط حلب ودمشق وحماة وحمص، وثانياً بالمحاولات الصهيونية لتسويق الإرهابيين كثوار، على غرار ما كتب "يهوذا بلينجا" في جريدة "إسرائيل هيوم" بتاريخ 2/12/2024 داعياً "ثوار سوريا" إلى الحذر من مؤامرة قد تؤدي إلى تصفيتهم (نقلاً عن الغد الأردنية 3/12/2024)، وثالثاً، عبر المرتزقة والخونة والجماعات التكفيرية الإجرامية من كل بقاع الأرض:
- فمن جهة، هناك المحاولات الأميركية – الصهيونية المتواصلة لتمزيق المنطقة طائفياً، ولتحضير المسرح السياسي للشرق الأوسط أمام الاتفاقيات الإبراهيمية، ليكون مركزاً إسرائيلياً تحت عنوان يهودية الدولة، ومحيطاً عربياً تابعاً من الكانتونات الطائفية والجهوية وفق تصورات، بريجنسكي، لويس، بيترز، وغيرهم.
- ومن جهة ثانية، رؤية الشرق الأوسط كساحة صراع لمنع التواصل الأوراسي و"الهارت لاند" الشمالي الروسي مع "الهارت لاند" الجنوبي في الشرق الأوسط، كما لمنع إيران من استكمال نفسها كقوة إقليمية ونووية (بالمعنى السلمي) من وزن القوى الكبرى، لا سيما بسبب دورها الفاعل في محور المقاومة والقوس الاستراتيجي الذي يمتد من الساحل الشمالي للمتوسط إلى بحر العرب وباب المندب.
- ومن جهة ثالثة، لاستبدال الغاز الروسي والإيراني، إذ تحتل الدولتان المرتبتين الأولى والثانية عالمياً، باحتياطي الغاز الضخم المكتشف قبالة ساحل فلسطين المحتلة وجنوب لبنان.
- ومن جهة رابعة، وبعد أن فشل التكفيريون في إقامة "بافر ستيت" صهيوني – أميركي على شكل إمارات طائفية عازلة مسلحة في القصير (النصرة)، ثم في الرقة (داعش) لعزل حزب الله عن قنوات إمداده العسكرية ورئته السياسية الوطنية، ثمة أوامر ميدانية موسادية لتكرار التجربة عبر العدوان الأخير على حلب.
- ومن جهة خامسة، هناك اللعبة الديموغرافية، التي رأينا فصولاً منها ضد العامليين في جنوب لبنان والضاحية وبعض مناطق كسروان، والتي تتكرر اليوم شمال وشرق سوريا لفرض هذه اللعبة مع الكرد وسواهم، أياً كان الموقف السياسي من قياداتهم وتنظيماتهم.
بالإضافة إلى البعد الصهيوني – الأميركي المذكور الواضح في كل تفاصيل ما شهدته غزة ولبنان، وأخيراً سوريا، من اعتداءات، هناك ما يقال عن اعتبارات شديدة الأهمية لعدد آخر من اللاعبين.
فالأوساط الطورانية التوسعية حاضرة بقوة في زوايا عديدة من هذا المشهد، ومن المؤشرات الأخرى على ذلك:
- التصريحات التي صدرت على لسان أكثر من مسؤول سياسي وعسكري تربط وقف العدوان (ما يؤكد دورهم فيه) باستجابة دمشق لمطالب (المعارضة)، ناهيك بتصريحات سابقة مماثلة بعد رفض الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد الدخول في مفاوضات ثنائية مع إردوغان، قبل الانسحاب من الأراضي التي تحتلها تركيا.
- تغطية تدخل الأوساط الطورانية بذريعة اللاجئين السوريين وإعادتهم، كما تغطية الهجوم التكفيري بقيادة المجرم الجولاني المصنف إرهابياً هو وتنظيمه من قبل الأمم المتحدة، بالحديث المزعوم عن دور فاعل للجماعات الأخرى وتسويق ذلك بأفلام مفبركة تركز على دور هذه الجماعات المعروفة باتخاذها علم الانتداب الفرنسي الطائفي شعاراً لها.
- الحجم الهائل من التحشيد البشري للمقاتلين المرتزقة مثل الأوكرانيين وغيرهم الذين مروا حتماً بالمعابر التركية، وكذلك المرور من المواقع العسكرية التركية التي تحتل مناطق في شمال سوريا.
- الحجم الكبير من التسليح والأسلحة المتطورة، مثل المسيرات التركية والأوكرانية والقاذفات الحديثة المضادة للدروع المرسلة من مخازن الأطلسي في بولندا وأوكرانيا، وسيارات الروفر الرباعية الدفع المعدلة لغايات عسكرية وغير ذلك.
- استخدام وسائل إعلام تركية لتعبيرات الإرهابيين مثل (المعارضة، والنفير).
- تصريحات طورانية بغطاء إنساني لربط كهرباء حلب مع تركيا، وكذلك الاتصالات، والتعاون الصناعي كعنوان لنهب المصانع السورية، ويشار هنا إلى أن أنقره رفضت على مدار العقود السابقة طلبات عراقية وسورية بحذف الموصل وحلب من الخريطة التركية في المركز الجغرافي التركي.
وثمة جوائز ترضية لقوى محلية تنتظر هزيمة المقاومة والممانعة لقطف ثمار سياسية واقتصادية متناثرة هنا وهناك، على غرار معركة الرئاسة في لبنان، ومحاولات استثمار استشهاد القائد التاريخي الكبير، حسن نصر الله، لاستعادة ميراث العائلات الإقطاعية من كل الطوائف.
هذا هو المشهد العام للحرائق والنيران التي تضطرم وتتوسع في شرق من الهشيم الجاف، الجاهز لأي شرارة طائفية أو جهوية، ومن المؤسف أن الضغط الوحشي الصهيوني- الأميركي على المدنيين، ساهم في تغذية الأوهام السياسية والرهانات الدبلوماسية، والمراوحة والتردد، والرغبة في تخفيض التصعيد ما حرم محور المقاومة من المراكمة على إنجازاته السابقة، وبسالة المقاتلين في الميدان، وحوّله من الحالة الهجومية بالحضور الكبير للقائد الشهيد نصر الله، إلى حالة دفاعية تحتاج إلى إرادة حازمة وشجاعة قصوى للانطلاق منها مجدداً وانتزاع زمام المبادرة مرة أخرى.
إلى ذلك، وفي ما يخص الحلقة السورية من مسلسل الاعتداءات الصهيونية – الأميركية وأدواتها التكفيرية وغير التكفيرية ومنابرها الإعلامية، يمكن تلخيص المشهد بالنقاط الآتية:
- لا يزال الهدف الأساسي لكل ذلك تغيير المآلات والمسارات في عموم الشرق الأوسط، ودفع المحور والعواصم الدولية الصديقة إلى الخلف، ومن أجل ذلك محاولة تقطيع أوصال المحور وإقامة أكثر من "بافر ستيت" في وجه حزب الله وتفريغ انتصاره الميداني في الجنوب من مضمونه السياسي.
- إضعاف سوريا وتشتيت تحالفاتها التاريخية مع إيران وروسيا، وتوسيع مساحة التقاسم الوظيفي الصهيوني – الطوراني فيها برعاية أميركية.
- تغطية العدوان والإرهاب بعناوين إنسانية مثل (إعادة اللاجئين) أو سياسية مثل (جماعة عنتاب) فيما القوة الحقيقية موجودة في إدلب حيث يسيطر التكفيريون.
أما الأدوات الأخرى، من بقايا المنشقين الذين يقيمون في عنتاب برعاية المخابرات الطورانية، إلى شظايا القاعدة مثل جبهة النصرة وحراس الدين والداعشية الجديدة من كل الملل والنحل: ايغور، أوزبك، تركمان، شيشان، أفغان، وغيرهم من الآسيويين والصحراويين الذين تم جلبهم من جنوب (شمال أفريقيا)، فمعروف للجميع أنهم من صنيعة أقلام الاستخبارات الأطلسية وفق تصريحات علنية لـ "هيلاري كلينتون" و"ترامب" ولعشرات الوثائق والدراسات الصادرة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
الآفاق
ابتداء، ثمة سابقة قريبة هي أن سوريا وتحالفاتها سبق ونجحت في ظروف صعبة أيضاً بتحرير حلب ومحيطها من الجماعات نفسها والهجمات الإرهابية، كما أن ظروف الطرف الآخر مهزوزة أيضاً من حيث التحسبات والتقاطعات، وقد تحمل المرحلة المقبلة مفاجآت معاكسة وينجح الجيش السوري في تحرير إدلب وتطويق حلب.
وإذا كان محور المقاومة مع الأصدقاء الدوليين، قد ارتبك فعلاً في إدارة الأشهر الأخيرة ومواجهة تداعيات القصف الصهيوني المتناثر غير المسبوق ودخل في متاهات تحت عناوين مختلفة، اختلطت فيها حسابات الحقل والبيدر، واتسعت المسافة بين التكتيك والاستراتيجية، وكان من مظاهر ذلك ما يقال عن إعفاءات مسؤولين كبار من كل الأطراف، فإن معسكر العدوان الصهيوني – الأميركي وأدواته ومنابره، ليس موحداً، بل من الصعب تحويل لحظة الوحدة الميدانية عنده إلى فواتير سياسية مشتركة.
فالأمر العملياتي الميداني من غرفة مشتركة يديرها ضباط من الموساد الصهيوني والمخابرات الأطلسية والطورانية، غير الترتيبات المثقلة باعتبارات أخرى، سياسية وجغرافية وديموغرافية، ومن ذلك:
- الخلافات بين مركزي العدوان، إدلب حيث يتمركز التكفيريون والمرتزقة الأصوليون بزعامة الجولاني، وعنتاب حيث تتمركز شظايا المنشقين باسم "الجيش الحر" أو "الجيش الوطني" برعاية المخابرات الأطلسية أيضاً، وثمة أزمة هنا تتعلق بواشنطن التي تدير مجموعة من الدمى المتباينة، من النصرة إلى قسد إلى حكومة المعارضة الكرتونية وجيشها في عنتاب.
- الأزمة الخاصة بالكرد الذين يحظون بدعم أميركي – فرنسي، مقابل الرفض القاطع لهم من الطرف الآخر في حلف الأطلسي ممثلاً بأنقرة، ويشار هنا إلى أن موقف العدو الصهيوني من الكرد، لا يجري على الوتيرة نفسها في كل الساحات، فهو مع كرد أربيل ومتحفظ على كرد السليمانية، ومتردد مع كرد سوريا لسبب تاريخي قديم يعود إلى انخراط قسم منهم في صفوف المقاومة الفلسطينية.
- كما ترتبط الأزمة الكردية بحسابات ديموغرافية لا تقل إشكالية، إذ لوحظ إعادة توزيع لهم وطردهم من مناطق سيطرة الجماعات الطورانية، مثل منطقة الشيخ مقصود في حلب ومنطقة تل رفعت.
- الأزمة الناتجة عن التعاطي السياسي والديموغرافي والاقتصادي بين شرق الفرات وغربه، وبين الطريقين، العمودي (M5) والأفقي (M4).
- التداعيات الناتجة عن الاستراتيجية الأميركية الجديدة ومحاولتها إضعاف جماعات الإسلام المقاوم وخصوصاً حزب الله والقساميين والجهاد الإسلامي، لصالح جماعات الإسلام الأطلسي أمثال القاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرهم.
يشار هنا إلى أن هذه الاستراتيجية موروثة عن المخابرات البريطانية منذ القرن التاسع عشر، حيث قامت بتصعيد الفكر الوهابي والتصوف القابالي (التأويلات اليهودية) وقامت في الوقت نفسه بتطويق ومحاصرة موروث التنوير في الفكر الإسلامي (ابن رشد، الفارابي، ابن سينا، ابن طفيل، ابن باجه، والمتصوفة الفلاسفة مثل الحلاج الذي دعا إلى ثورة ضد فساد بغداد والممولين اليهود للبلاط البغدادي آنذاك).
- إذا كانت تركيا تستثمر في لعبة التوازن الروسية في الشمال السوري من دون أن تستفز موسكو الحريصة على العلاقة معها لأسباب كثيرة، ومثل ذلك علاقات أنقرة مع طهران، فإن عش الدبابير الذي سمحت له بالانطلاق في كل مكان لن يكون من السهل السيطرة عليه حتى إزاء المصالح الروسية والإيرانية، ما قد يخلق مواقف جديدة في موسكو وطهران، ومن المؤكد أن تركيا ليست مرشحة لهذا القدر من الصدامات الدولية والإقليمية بوجود قنبلة ديموغرافية تاريخية من الوزن الكردي.
- ولعلنا لا نبالغ إذا قارنا ما سبق مع أوهام نتنياهو وتوظيف مجيء ترامب من أجل عدوان استراتيجي على إيران، فمثل هذه النيران إن حصلت ستحصد رؤوساً عديدة بينها نتنياهو وربما الكيان برمته.
موفق محادين
كاتب ومحلل سياسي أردني