روسيا ما بعد «المفاجأة السورية»: محاولات لاستكشاف المستقبل
لعلّ ما صرّح به الناطق باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، من أنّ «ما حدث في سوريا فاجأ العالم كله، وروسيا ليست استثناء»، هو التعبير الأنسب لتوصيف ما شهدته الساحة السورية ليلة الإطاحة بحكم بشار الأسد، نهاية الأسبوع الماضي.
على أن المفاجآت لم تقتصر على التعاطي «المخالف للتوقّعات» الذي أظهرته فصائل المعارضة المسلّحة بعد تسلُّمها مقاليد الأمور في البلاد، ومن جملتها إعلان قيادات محسوبة عليها عدم ممانعتها الإبقاء على القواعد العسكرية الروسية المتمركزة في سوريا، بل انسحبت على مواقف الفاعلين الدوليين هناك، وبخاصة روسيا التي قبلت استضافة الأسد على أراضيها «لغايات إنسانية»،
ودعت إلى «الحفاظ على سلامة ووحدة الأراضي السورية»، في إطار ما سمّته «عملية سياسية شاملة على أساس قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 2254».
وأنبأ حديث رئيس الاستخبارات الروسية، سيرغي ناريشكين، عن أنّ «مصير الشعب السوري وسوريا كدولة، سيعتمد إلى حدّ كبير على تمكُّن القوى المختلفة الممثّلة في المعارضة من التوصّل إلى اتفاق»، بتحوّل موسكو نحو التسليم بالواقع السياسي الجديد لحليفتها التاريخية في الشرق الأوسط، رغم تعقيداته المتّصلة بموقع سوريا الجيوسياسي الحسّاس في المنطقة، وبنيتها الاجتماعية التعددية، والتي تثير قلق الروس وأطراف دوليين وإقليميين آخرين، على حد سواء.
إلّا أنّ ما شدد عليه الكرملين لناحية ضرورة بحث مستقبل القواعد الروسية مع السلطة المقبلة في دمشق، أعطى مؤشرات إلى أنّ ثمة أسئلة وهواجس مطروحة من جانب موسكو - التي يكاد يحصرها كثيرون بالوجود العسكري الروسي في سوريا -، تتطلّب إجابات هي رهن شكل الحكم المستقبلي في دمشق ونهجه.
والواقع أن تلك الهواجس فنّدها بوضوح مندوب روسيا الدائم لدى مجلس الأمن الدولي، فاسيلي نيبينزيا، خلال إحاطة إعلامية، الإثنين، عقب جلسة خصّصها مجلس الأمن للبحث في تطوّرات الوضع في سوريا؛
إذ أشار إلى أنّ التعامل مع «هيئة تحرير الشام»، المصنّفة على لوائح الإرهاب الأممية، يُعدّ «مشكلة» في المدة المقبلة، كاشفاً عن وجود توّجه لدى المجلس للتوافق على إعداد وثيقة في شأن سوريا، ومعرباً في الوقت نفسه عن استهجانه السلوكيات الإسرائيلية في الجولان.
وتابع نيبينزيا أنّ الجميع، بما في ذلك أعضاء مجلس الأمن الدولي، فوجئوا بتغيّر السلطة في سوريا، معتبراً أنه «سيتعيّن علينا أن ننتظر ونراقب ونقيّم كيف يتطوّر الوضع».
والمضمون نفسه عبّر عنه الناطق باسم الرئاسة الروسية، الذي حذّر من أن الوضع في سوريا لا يزال غير مستقر، وأنّ هناك مدة تحوّلات جارية، كاشفاً أن بلاده على اتصال دائم مع أنقرة واللاعبين الإقليميين الآخرين حول سوريا.
مصير مصالح موسكو
مع تضارب الروايات حول «ليلة سقوط دمشق»، بين مَن يرجّح وجود ترتيبات إقليمية مسبقة لإخراج الأسد من السلطة، وهو أمر أرسلت موسكو إشارات متضاربة حوله، وبين من وضع الحدث في سياق «مباراة صفرية»، مال كبير الباحثين في «معهد الدراسات الشرقية» التابع لـ «أكاديمية العلوم الروسية»، فلاديمير ساجين، إلى تأييد السيناريو الثاني؛
إذ رأى أنّ «الوضع في الشرق الأوسط أصبح أكثر تعقيداً بشكل ملحوظ، مع اهتزاز ميزان القوى الهشّ» فيه، حيث «تبدو إيران الخاسر الرئيسي من سقوط حكومة بشار الأسد، بالنظر إلى أنّ سوريا كانت تمثّل بالنسبة إليها، الحجر الذهبي في سلسلة النفوذ»،
مضيفاً أن انهيار الحكومة السورية جاء على وقع «إضعاف حزب الله، الذي كان بدوره جزءاً من محور نفوذ طهران».
ولفت الباحث الروسي إلى أنّ «تركيا هي المستفيد الرئيسي ممّا حدث، لكونه خطوة أخرى نحو الاعتراف بنفوذها الدولي المتزايد وتعزيز مكانتها على المستوى الإقليمي»،
معتبراً أنّه «من الممكن أن يؤدي سقوط الحكومة السورية إلى تعقيد علاقات البلاد مع إيران، وإنْ كان لن يفضي إلى وقوع صدام عنيف بينهما»، في حين أن إسرائيل تنظر إلى الحدث السوري من زاوية أنها «تخلّصت من لاعب قوي إلى حد ما، كان يرتبط بعلاقات وثيقة بطهران».
واستعرض ساجين أبرز مخاوف موسكو السياسية، وتحديداً على مستوى صيغة الحكم المستقبلي في دمشق، مبيّناً أنّ «شكل الحكومة السورية المستقبلية ليس واضحاً تماماً، وسط توجّس من تسلُّم الإسلاميين الراديكاليين مقاليد السلطة».
أما في ما يخصّ المصالح العسكرية لموسكو في دمشق، فقد شدّد كبير الباحثين في «مركز تحليل الإستراتيجيات والتقنيات»، يوري ليامين، على أنّه «لا فائدة من النضال من أجل الاحتفاظ بنقاط التمركز العسكرية الروسية (في طرطوس وحميميم وأماكن أخرى)، وفتح جبهة ثانية في سوريا (إضافة إلى حرب أوكرانيا)»،
مرجعاً الأمر إلى وجود «نقاط ضعف شديدة حول هذه القواعد، لكون روسيا لا تملك وحدة برية قوية لحمايتها بشكل مضمون وفاعل، فضلاً عن امتلاكها قوة جوية صغيرة» في المطارات السورية.
ورجّح ليامين انفتاح موسكو، في المدة المقبلة، على «إمكانية التوصّل إلى اتفاقات سياسية ليس مع المسلحين فحسب، بل ومع رعاتهم، مثل تركيا».
وعلى غرار الأوساط البحثية والأكاديمية، تفاوتت ردود الفعل في وسائل الإعلام الروسية، بخاصة الحكومية منها، وفي مقدمتها شبكة «روسيا اليوم»، والمدونات العسكرية الموالية للكرملين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كقناتي «Z-Bloggers» و»milbloggers».
إثر إظهار بعضها امتعاضاً بعد الإطاحة بحكم الأسد، وما صاحبه من أنباء حول تعرُّض عسكريين روس في عدد من نقاط تمركزهم في شرق سوريا للحصار، أو بالنظر إلى هواجس في شأن احتمالية تعرّض النفوذ الإقليمي والدولي لموسكو للخطر، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية تضاؤل شعبية الرئيس فلاديمير بوتين الذي بنى جانباً كبيراً من «أمجاده السياسية» على نجاحات خارجية.
ومن هذا المنطلق، سلّطت قناة «RAG&E» على تطبيق «تلغرام»، الضوء على ثغرات السياسة العسكرية والإعلامية الروسية المتبعة في سوريا، مؤكدة «(أنّنا) (الروس) لم نتمكّن من تقديم مبرر واضح أمام الشعب السوري لوجودنا (العسكري) القائم في الجمهورية العربية السورية منذ عشرات السنين، وخصوصاً في ما يتعلّق بشرح وجه الفائدة من ذلك الوجود الداعم للأسد، ووجه الضرر الذي يحمله تواجد عناصر إرهابية مسلحة في صفوف المعارضة هناك».
وعلى نحو أكثر تحديداً، أسهبت قناة «Atomic Cherry» في شرح الثغرات المشار إليها، كاشفة أنّ «الحملة الإعلامية الروسية المخصّصة للعملية في سوريا، تركّزت لسنوات، إلى حد بعيد، على إبراز الجانب العسكري العنيف (للجهد العسكري الروسي) بغية إظهار موسكو كلاعب رئيسي في مسرح العمل العسكري والسياسي» داخل سوريا،
مشدّدة على أنّ هذا النهج «جعل الحملة الروسية تعاين تبعات مشابهة، بشكل أو بآخر، على المستوى الدعائي (السلبي) لِما نجم عن صور الغزو الأميركي للعراق، والتي علقت في أفئدة عدد من المشاهدين المحليين كمثال عن الصورة (العدوانية) للتصرفات الصادرة عن قوة عظمى».
وذهبت الصحافية الروسية المؤيدة للحكومة، أناستاسيا كاشيفاروفا، من جهتها، إلى القول إنّ سقوط الأسد «أمر مخزٍ» لكل من روسيا وسوريا،
معتبرة أنّه يأتي في سياق «الانحناء للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتذلّل له»، و«خطر تراجع نفوذ موسكو» في الشرق الأوسط، مع وصفها الرئيس السوري بـ«المفتقد إلى البصيرة (السياسية)، والطامع (في السلطة)».
وحذّرت كاشيفاروفا من أنّ «الحرب العالمية الثالثة لن تبدأ من أوكرانيا، بل بالاضطرابات الكبرى الحاصلة في سوريا»، معتبرة أن الحصيلة «المفترضة» جرّاء تلك الاضطرابات تحمل مؤشرات إلى «انتصار» الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل، و«فقدان للسيطرة» من قِبَل إيران وسوريا وروسيا.
خضر خروبي