هل اعتاد اليمنيون الشتات؟
أشياء كثيرة تدعو إلى طرح هذا التساؤل (المتضمن في عنوان المقال) الجارح للكبرياء، وثمّة أشياء مريرة تحتاج إلى الجدّية والجرأة في الطرح والمكاشفة. هنالك بلد يزخر بكثير من الألم، محكوم بالفوضى والشتات والفساد والقهر والهروب من المسؤولية، مثخن بالجراح كان اسمه يوماً "اليمن السعيد".
وبعيداً من اللغة الممزوجة بالعاطفة، التي تثير الحزن ولا تداويه، وتطلّ على المشهد اليمني بنظرة بانورامية لا تفيد القارئ البعيد، الذي يحتاج إلى توصيفات واضحة ومباشرة، يمكن القول إن الأزمة اليمنية من أكثر الأزمات والصراعات الداخلية تعقيداً، وواقعة في شرك كبير من التداخلات والحسابات الإقليمية والدولية،
أو هكذا تبدو الصورة لمن يحاول تفكيك المشهد، وتصوّر طبيعة المستقبل. لكنّها من ناحية أخرى تبدو سهلة الحلّ في التصورات النظرية (على الأقل) إذا ما نُظِر إليها من زاوية الإرادة الوطنية.
والحقيقة أن أبرز عوامل تعقيد المشهد اليمني، وبقاء البلد المثقل بالأزمات الإنسانية المريرة حبيس حالة اللاحرب واللاسلم، هو غياب الإرادة الوطنية المؤمنة بضرورة الحسم، ومغادرة مربّع الضياع والشتات.
خلال الأعوام العشرة الماضية من عمر الصراع في اليمن، نجح المعسكر (السلطة الشرعية) المناوئ لانقلاب الحوثيين في بناء سردية مدلولها أن التدخّلين الإقليمي والدولي كانا عائقين أمام الحسم،
وهذا الطرح، وإن حمل في طياته بعض المصداقية، كان يخبّئ عيباً مهمّاً، وهو فقدان الرغبة في الحسم، وتفضيل الارتهان، والمصالح الشخصية الناشئة من تجارة الحرب.
صحيح أن تلك السردية لم تنطلِ على اليمنيين الذين يؤمنون يقيناً بأن إشكال اليمن ومعاناته تكمن في أزمة السلطة والنخبة، ولكن تلك السردية ولأسباب اجتماعية وسياسية، تحدّت زيفها وصمدت وأصبحت حجّة كثيرين من المدجَّنين،
بينما انصرف الشعب إلى إدارة شؤونه بما بقي له من هامش للحياة لا يكاد يُرى بالعين المُجرَّدة، ينتظر البطلَ المخلّصَ الذي لن يأتي قريباً.
إن أسوأ مرض قد يصيب مجتمع ما هو اعتياد البقاء في الهامش بين الحياة والموت، وأنذل نخبة تلك التي تبني رفاهيتها على تعاسة شعبها.
لقد نجح أطراف الصراع اليمني، سواء الذين يرفعون شعارات الحقّ أو الذين يعلون هتافات الباطل، في إخراج اليمنيين بحاضرهم ومستقبلهم من مقتضيات المعركة المعلّقة وأهدافها، ووظّفوا آلامهم وتعاستهم لصالح مشاريعهم الشخصية والأجندات الإقليمية، التي أصبحوا وكلاء لها.
ولا ينسجم مع أبجديات الوطنية، ولا حتى مع أقصى حدود النفعية، أن آلاف الموظّفين اليمنيين (من دون مبالغة) يقطنون في الخارج، ويتسلّمون رواتبهم (بالدولار) ممّا تبقى من إيرادات الدولة، وجميعهم يرفضون العودة إلى الداخل، مع العلم أن هؤلاء "قليلو الحظّ"، يندبون بختهم عندما يقارنون أنفسهم بحيتان الفساد الكبار من تجّار الحرب.
هذا كلّه يحدث في البلد الذي يمرّ بأسوأ أزمة إنسانية في العالم، بحسب الأمم المتحدة.
في الواقع، يعيش اليمنيون حالة غير مسبوقة في التاريخ من التنكّر لبلدهم. الجميع منصرف نحو شؤونه الشخصية الضيّقة. أصبح الهمّ العام وباءً يخاف الجميع من الإصابة به.
هنالك إشكال بنيوي في الشخصية النخبوية اليمنية تجعل حال المشتغل في السلطة كحال المواطن البسيط، ينتظر الحلّ والفرج من الخارج.
بعضهم يتحدّث عن عقدة تاريخية، "العقدة اليزنية" (نسبة إلى سيف بن ذي يزن الذي استعان بالفرس لتحرير اليمن من الاحتلال الحبشي). تلك العقدة أخذت مجراها في التاريخ منذ ما قبل الميلاد حتى العصر الحديث، عندما استعان اليمنيون مجدّداً بالمصريين، خلال عهد جمال عبد الناصر، للدفاع عن الجمهورية،
وتثبيت سلطتها في 1962، أي إن التحوّلات المفصلية في التاريخ اليمني عادة ما تتم بإسناد خارجي، ذلك عرف سائد.
لكن الحقيقة أن حادثتَين تاريخيتَين لا يمكن أن تصبحا دليلين لحكم قطعي في عموم التاريخ اليمني، قد تقدّمان قرائن في الحديث عن حلفاء اليوم، ولا بأس في ذلك.
لا يعفي ذلك الاستشهاد بالتاريخ من طرح الأسئلة والاستفسارات عن عجز وانتفاء دور السلطة والنخبة الحالية. لماذا هذا الاستسلام كلّه لأجندات الخارج؟ لماذا هذا الهوان؟...
منذ عهد الرئيس السابق، عبد ربه منصور هادي، وحتى تشكيل المجلس الرئاسي، توفّرت العديد من الفرص والظروف الدولية المناسبة للتحرّك الفعّال، وتغيير موازين القوة في الأرض، وفرض واقع جديد.
لكن دوماً، كانت الإرادة الوطنية غائبةً، بل الكارثة أن أطرافاً عديدةً في المعسكر المناوئ للانقلاب لديها تخوّفات من الحسم، لأنه لن يكون في صالحها.
والخلاصة في بقاء الأزمة اليمنية معلّقة من دون حسم سياسي أو عسكري، مردّه في الأساس إلى غياب الإرادة الوطنية، والإجماع المحلّي على ضرورة مغادرة مربّع الضياع.
لا يزال الجميع منشغلين بالحسابات الضيّقة. صحيح أن هنالك تدخّلاً إقليمياً ودولياً معيقاً في الملفّ اليمني، لكنّنا لم نشهد، خلال عشر سنوات من المهانة والمعاناة، محاولةً وطنيةً واحدةً جادّةً لكسر الحواجز المفروضة.
لم نشهد توافقاً بين الأطراف السياسية على مشروع وطني واحد، ولم يأت البطل الأسطوري المخلّص.
والواقع أن لسان حال يمنيين كثيرين يؤمنون بنظرية المخلّص، هو ما قاله نزار قبّاني: "تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا/وما كنت عن وعد الهوى تتأخرُ/سَهِدْنا.. وفكّرنا.. وشاخت دموعنا/وشابت ليالينا، وما كنتَ تحضُرُ".
ماهر أبو المجد
صحافي وكاتب يمني.