
يمن السيمفونية الصامتة: لحن ينتظر عازفًا ربانيًا ليُزلزل أرجاء المعمورة
في أحضان التاريخ، حيث تتربع اليمن شامخة كجبلٍ أشم، تتجلى أرضٌ فريدة بتنوعها الجغرافي وثرائها الحضاري، وكأنها سمفونية كونية لم تُعزف بعد بكامل إتقانها.
تخيل معي تلك الجبال الشاهقة، ليست مجرد تضاريس صماء، بل هي كآلات نفخٍ ضخمة، تنتظر نفخة الحياة لتُطلق ألحانًا قوية وعريقة تحكي قصصًا عن صبر وعزيمة شعب.
وهضابها الخصبة، بتدرجاتها اللونية وتنوعها البيولوجي، تُشبه آلات وترية هادئة، تُضفي على اللحن العام انسجامًا وعذوبة.
أما سهولها المترامية الأطراف، التي تمتد كأذرعٍ دافئة لتُعانق مياه البحر الأحمر وبحر العرب، فهي كالآلات الإيقاعية الواسعة، تُضفي على السمفونية إيقاعًا حيويًا وتنوعًا ساحرًا بجزرها الخلابة وشواطئها الذهبية.
تاريخ اليمن العريق، الضارب بجذوره في أعماق الزمن، هو النوتة الموسيقية الأساسية لهذه السمفونية. ممالك سبأ وحمير وقتبان وحضرموت، ليست مجرد حقب زمنية ولت، بل هي حركات موسيقية متكاملة، تحمل في طياتها ألحان القوة والحكمة والإبداع.
قصة بلقيس وملكتها، تُشبه مقطعًا منفردًا ساحرًا، يتردد صداه في أروقة التاريخ كرمزٍ للذكاء والرشاد. مدن مثل مأرب وصنعاء وشبوة، كانت كقاعاتٍ أوركسترالية نابضة بالحياة، تشهد على ازدهار الحضارة والفنون والعلوم.
آثار اليمن الخالدة هي بمثابة الآلات الموسيقية العتيقة التي تنتظر من يعيد إليها النطق.
سد مأرب العظيم، ليس مجرد صرح هندسي فريد، بل هو نغمةٌ قوية تُجسد عبقرية الإنسان اليمني وقدرته على التكيف والابتكار، شاهدٌ على حضارةٍ روّت أرضها وعقول أبنائها بالعلم والمعرفة.
وقصر غمدان الأسطوري، بشموخه المعماري وتصميمه الفريد، يُشبه لحنًا ملكيًا مهيبًا، يثير في النفس مشاعر الفخر والعظمة، ويحكي قصصًا عن ملوكٍ حكموا بالعدل والحكمة.
هذه الآثار ليست مجرد حجارة صامتة، بل هي مفاتيح موسيقية تنتظر أن تُعزف عليها ألحان الماضي لتُلهم الحاضر والمستقبل.
ولكن، ويا للأسف، ظلت هذه السمفونية اليمنية الرائعة تنتظر قائد أوركسترا يتمتع بالحنكة والرؤية والإخلاص.
أولئك الذين تولوا زمام الأمور في هذه الأرض الطيبة، كانوا في كثير من الأحيان كعازفين لم يُحسنوا قراءة النوتات المعقدة، أو لم يمتلكوا الأدوات اللازمة للعزف بإتقان، فبقيت أوتار الجمال مُرتخية، والألحان حبيسة الصدور، والجمهور المتعطش ينتظر بشغف.
وسط هذا الركود، أشرق في سماء اليمن نجمٌ لامع، هو الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي، رحمه الله. كان كـ "بيتهوفن" الذي بدأ يعزف حركةً أولى واعدة في هذه السمفونية، لحنًا يحمل في طياته وعدًا بالوحدة الوطنية، والعدالة الاجتماعية، والنهضة الشاملة.
لكن يد الغدر الآثمة امتدت لتُسكت تلك الأنامل الذهبية قبل أن تُكمل عزف تحفته، وأجهضت تلك البداية المشرقة التي كانت تبشر بالكثير. وعادت الأصداء النشاز لتعلو من جديد، مُعيدةً البلاد إلى دوامة من التحديات والصعاب.
إلا أن الأمل يبقى شعلةً متقدة في قلوب اليمنيين الأحرار. هذه السمفونية العظيمة، بكل ما تملكه من إمكانيات لحنية وجمالية، لا تزال تنتظر ذلك القائد الرباني، العازف المُلهم الذي يمتلك من الحكمة والفطنة والشجاعة ما يؤهله لقيادة هذه الأوركسترا المعقدة.
قائدٌ يستطيع أن يلمس كل آلة بدقة، وأن يستخرج منها أروع النغمات، وأن يُعيد صدى أمجاد الماضي ليُضيء دروب المستقبل. قائدٌ يلعب بكل الجيتارات ووسائل العزف التي تترك المسرح كله يهتز شوقًا وطربًا.
إنها دعوة صادقة، تنطلق من أعماق التاريخ وتتردد في كل شبر من أرض اليمن الطيبة، بحاجة إلى "هدهدٍ" جديد يحمل هذه الرسالة إلى ذلك القائد المنتظر.
رسالةٌ تُخبره بأن الأرض مُهيأة، وأن الشعب تواق، وأن اليمن بتاريخها وحضارتها وطبيعتها الخلابة، ينتظر تلك اليد الماهرة التي ستعيد عزف لحن العزة والكرامة والازدهار، لحنًا يُزلزل أرجاء المعمورة ويُعيد لليمن مكانتها اللائقة بين الأمم، ويُثبت للعالم أن هذه السيمفونية الصامتة كانت تنتظر فقط العازف المُتقن ليُطلق عنان جمالها.
بقلم: أ. عبدالله الشرعبي