عُمان… دولةٌ فهمت موقعها قبل أن تبحث عن دورها
هناك دولٌ في المنطقة بدأ تاريخها الحقيقي مع أول رصاصة، وأخرى مع أول منصة خطاب، وثالثة مع أول اكتشاف للثروة.
أمّا عُمان فلم تبدأ من هذه النقاط المتوقعة، بل من سؤال واحد كان كفيلًا أن يحدد مصيرها:
كيف يمكن لدولة على تخوم الجغرافيا أن تحجز مكانًا في قلب السياسة؟
خمسةٌ وخمسون عامًا مضت منذ أن اختارت عُمان أن تنتمي إلى مدرسةٍ نادرة في الحكم، مدرسةٍ تدرك أن الاستقرار ليس هدية تأتي مع الزمن، ولا صدفة تصنعها الجغرافيا، بل صناعة تحتاج إلى هندسة دقيقة في الداخل وعقل بارد في الخارج.
ومن هذه الفكرة وُلدت دولة تعرف أن بناء المؤسسات أهم من بناء الأسوار، وأن ترتيب البيت الداخلي مقدم على رفع الشعارات في الهواء.
ولذلك، بينما كانت العواصم المحيطة تكتب تاريخها بصوت الانفجارات وتغيّر اتجاهاتها كلما تغيّر الهواء، كانت عُمان تكتب تاريخها بالهدوء.
ذلك الهدوء الذي ظنه البعض صمتًا سياسيًا، لكنه في الحقيقة كان فعلًا مدروسًا: فعلًا لا يحتاج إلى ضجيج كي يثبت وجوده.
فحين ارتفعت أصوات الصراعات، كانت مسقط تخفّض صوتها لتسمع ما لا يسمعه الآخرون، وتفتح أبوابها حين يغلق الجميع أبوابهم، وتجمع المختلفين حين يختار غيرها الاصطفاف في طرف ضد طرف.
ومن هنا أصبحت سياسة الحياد التي ظنها البعض وقوفًا في المنتصف، حضورًا كامل الوزن في لحظة فقد فيها كثيرون البوصلة.
فحين تبادل الآخرون بيانات التهديد، تبادلت عُمان كلمات العقل.
وحين تكسرت الجسور، كانت تبني جسورًا جديدة، لا تبحث فيها عن بطولة لحظية، بل عن فرصة استقرار طويل المدى.
وبينما كانت المنطقة تشهد موجات صعود وهبوط في اقتصادات مرتبطة بالمزاج والأسعار، كانت عُمان تمضي في إعادة تشكيل قواعد الاقتصاد نفسه.
لم تُعَلِّق نجاحها على معجزة نفطية عابرة، بل وضعت رؤية تمتد إلى ما وراء العمر السياسي للأفراد:
رؤية عُمان 2040، التي لا ترفع في المؤتمرات للتصفيق، بل تُنفذ في الأرض خطوةً خطوة، في الموانئ التي تتوسع، والمناطق الاقتصادية التي تتشكل، والقوانين التي تُصاغ من جديد، والبنية الرقمية التي تتقدم حتى دون ضجيج إعلامي.
وهكذا، لم يكن المواطن في عُمان شاهدًا على الدولة من بعيد، بل شريكًا في مشروعها.
فالدولة التي تحترم عقل الإنسان لا تحتاج إلى مبالغة في تزيين الواقع، لأن الواقع نفسه صار دليلًا.
ومن يعرف معنى الاستقرار الاجتماعي الحقيقي، يدرك أنه ليس سلعة يتم شراؤها بالوقت، بل نتيجة مشروع سياسي واقتصادي متماسك.
واليوم، في الذكرى الخامسة والخمسين للنهضة، لا تحتاج عُمان إلى من يمتدحها أكثر مما تحتاج إلى من يفهمها.
لا تحتاج إلى مقارنات مع دول سقطت قبل أن تبدأ، ولا إلى أضواء باهرة تغطي على إنجاز من ورق. يكفيها أنها دولةٌ عرفت أين تقف…
فأدركت إلى أين يجب أن تصل. يكفيها أن ما بنته لم يكن سريعًا، لكنه كان ثابتًا. يكفيها أن التاريخ لم يكتبها على عجل، لأنها لم تُبنَ على عجل.
ولهذا، فإن عُمان اليوم ليست مجرد دولة ناجحة في زمنٍ مضطرب، بل درس سياسي عميق في فن إدارة المصير.
ولا غرابة أن يقف الزمن أمامها احترامًا، حين تُثبت أن الهدوء ليس ضعفًا، وأن الصمت حين يعملُ أقوى من آلاف الخطب حين تصرخ.
أ. نجم الدين الرفاعي
كاتب وباحث يمني