إحسان عبد القدوس... المعارك السياسية لـ«أديب المرأة»
رغم أن الكاتب المصري إحسان عبد القدوس (1919 - 1990) يُعدّ صاحب الروايات الشهيرة التي تنتصر لحواء في مجتمع ذكوري محافظ، مثل «أنا حرة»، و«لا أنام»، و«نسيت أني امرأة»، حتى إنه لُقِّب بـ«أديب المرأة»، فإنه صاحب وجه سياسي آخر، وتعرَّض للعديد من محاولات الاغتيال. هذه المفارقة يبرزها كتاب «إحسان عبد القدوس - عشق بلا ضفاف»، الذي صدر في طبعة جديدة عن دار «المعارف»، للكاتبة الصحافية آمال عثمان.
تشير المؤلفة إلى دور الجينات الوراثية التي انتقلت إلى كاتبنا من الأم (فاطمة اليوسف) والأب (محمد عبد القدوس)، وكلاهما فنان؛ الأب عشق التمثيل والمونولوج وكان يكتب المسرحيات ويسطر الشعر والزجل ويمثل على المسرح.
وحين أراد الجد أن يبعده عن الفن وطلب نقله إلى القاهرة ليعمل مديراً لـ«مدرسة الأقصر الصناعية»، قدم محمد عبد القدوس استقالته، وضحَّى بالوظيفة الحكومية، وعاد ليتفرَّغ للفن في القاهرة.
أما الأم فاطمة محيي الدين اليوسف؛ فهي لبنانية الأصل، تركية الجذور، بدأت ممثلةَ مسرح منذ كانت طفلة في العاشرة حتى صارت نجمة المسرح الأولى في مصر، لكنها قرَّرت التخلي عن كل ذلك والتفرغ للعمل الصحافي، حين أنشأت مجلة «روز اليوسف» التي تحمل اسمها الفني.
وخرج العدد الأول في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 1925، وسرعان ما تحولت من مجلة فنية إلى عامة، وصارت أقوى المجلات نفوذاً في مصر.
صدرت مجلة «روز اليوسف» من غرفتين في «بدروم» عمارة يمتلكها أمير الشعراء أحمد شوقي بـ«حارة جلال» المتفرعة من «شارع عماد الدين».
وكان إحسان الطفل الصغير يشاهد أمير الشعراء يجتمع مع أصدقائه على مقاعد مصفوفة أمام «البدروم»، لذا نشأ وتربى وسط المشاهير والمبدعين والسياسيين والمفكرين والأدباء، وتعود أن يلهو منذ الصغر مع الشاعر الكبير وضيوفه الكبار، وأن يلتقي مع رؤساء الحكومات ويتحدث مع الوزراء، لذا أصبح لا شيء يبهره.
حين خاض «إحسان» معركته السياسية الأولى لم يكن تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وكانت موجَّهة ضد أقوى رجل في مصر آنذاك، وهو اللورد كيلرن، السفير البريطاني في القاهرة، الذي ظل 12 عاماً في مصر لم يكن أي صحافي أو سياسي يجرؤ على مهاجمته علناً أو بالاسم.
لم يخش «إحسان» منصب الرجل وسلطانه أو قوته ونفوذه، وكتب مقاله الشهير في أغسطس (آب) 1945، بعنوان «الرجل الذي يجب أن يذهب»، مطالباً بطرده لفشله في مهمته سفيراً لبلاده، وعليه إقناع نفسه بأن مصر بلد مستقل ذو سيادة، وألا يمنح نفسه حقوقاً فاقت حقوق المندوب السامي في بلد مستعمر.
حقَّق المقال ردود فعل هائلة، وضاعف توزيع المجلة، لكنه تسبب في حضور البوليس السياسي لمقرها لتوجيه دعوة رقيقة مغلَّفة بابتسامة خبيثة إلى الصحافي الشاب كاتب المقال، بهدف الحديث و«الدردشة» معه في بعض الأمور.
ولم يكن وقتها يدرك أنه يُساق إلى «سجن الأجانب». وجلست «روز اليوسف» مع ابنها أمام وكيل النيابة، وشهدت التحقيقات منافسة بين الابن والأم على تحمل مسؤولية المقال ودخول السجن.
هي تصرخ قائلة: «أنا المسؤولة، اقبض عليَّ»، وهو يقول: «أبداً، أنا المسؤول اقبض علي أنا»! وابتسم وكيل النيابة وهو يرى أماً وابناً يتخاصمان على مَن منهما يدخل السجن، ثم انتصر للابن وأمر بالقبض عليه، فلم تبكِ أو تصرخ، إنما نظرت إليه وكأنها تهبه قوتها، ثم ابتسمت وقبَّلته وذهبت.
ودخل «إحسان» السجن لأول مرة في حياته، لكنها لن تكون الأخيرة.
وكانت المعركة الثانية تدور حول ما عُرف لاحقاً باسم «الأسلحة الفاسدة»، بعد حرب 1948، وكانت أحد الأسباب التي مهَّدت لقيام الثورة وسقوط الحكم الملكي.
بدأ «إحسان» في إثارة الموضوع على صفحات «روز اليوسف» لأول مرة في شهر يوليو (تموز) 1949، ثم ساعده بعض الضباط الأحرار في الحصول على عدد من الوثائق تشير إلى تورط بعض الأمراء وكبار المسؤولين في الجيش وزوجة أحد كبار الضباط وبعض رجال الأعمال في تلك الصفقات المشبوهة.
وجدَّد إحسان الحملة في ظل مناخ الحريات الذي أطلقته حكومة الوفد، برئاسة مصطفى النحاس باشا، ونشر مقالاً بعنوان: «من هو الضابط الذي يملك قصراً في كابري؟».
واللافت أن إحسان كان مقرباً للغاية من الضباط الأحرار بسبب تحقيقاته التي تناولت الأسلحة الفاسدة وغيرها من الحملات والمعارك السياسية.
وكان يخاطب جمال عبد الناصر باسم «جيمي»، لكن ذلك الوضع لم يستمر طويلاً، بعد أن كتب مقاله الناري الأشهر «الجمعية السرية التي تحكم مصر»، خلال الأزمة المعروفة بأزمة مارس (آذار) 1954، مطالباً فيه «مجلس الثورة» بالتخلي عن الأجواء السرية التي تجعلهم يبدون مثل جمعية سرية تحكم مصر بعد أن تحولوا إلى حكام مسؤولين أمام الشعب، ومن حق شعبهم أن يحاسبهم على قراراتهم المصيرية التي تؤثر على مستقبل الوطن. ودعا إلى عودة الجيش إلى ثكناته وترسيخ دولة المؤسسات المدنية، وأن يشكل الضباط الأحرار حزباً سياسياً يخوضون به الانتخابات بدلاً من الاجتماعات المغلقة وأسلوب الأجهزة السرية التي تسيطر على القرار السياسي.
أمضى «إحسان» في السجن الحربي 3 أشهر و3 أيام، منها 45 يوماً داخل الزنزانة الانفرادية عُزل خلالها عن العالم. وما إن تم إطلاق سراحه وعاد إلى بيته حتى دق جرس التليفون ورفع السماعة، فإذا به يجد المتحدث هو جمال عبد الناصر شخصياً يقول له ضاحكاً: «تعال افطر معي، لا تتأخر... أنا منتظرك».
ولم يجد مفراً من تلبية الدعوة التي لا يدري ما إذا كانت أمراً في صورة دعوة مهذبة، أم دعوة من صديق سابق خلال سنوات الإعداد للثورة؟
وعند دخوله، استقبله «ناصر» بحرارة الأصدقاء، بينما تعامل معه «إحسان» معاملة الرؤساء، وكان يحدثه بلقب «سيادتك»، وليس «يا جيمي»، مثلما كان يناديه في السابق.