
زبيد اليمنية... شهادة العلم والعمران
في قلب سهل تهامة غرب اليمن، وعلى بعد نحو 100 كيلومتر جنوب محافظة الحديدة، تقف زبيد، المدينة التي جمعت بين بهاء التاريخ وألق الجغرافيا وازدهار العلم والعمران، شاهدة على مجد حضاري وإنساني عابر للقرون.
فليس غريباً أن يطلق عليها "بغداد اليمن"، وهي التي أنجبت العلماء، واحتضنت المدارس، وزخرت بمخطوطات قلَّ مثيلها، وتقدمت الصفوف في مضمار المعرفة والفقه منذ فجر الإسلام.
مدينة مسكونة بروح العلم والأنبياء
نشأت زبيد في وادٍ يحمل اسمها، وذاع صيتها في كتب الجغرافيين والرحالة والمؤرخين، بدءاً من المقدسي الذي شبهها ببغداد، وحتى الباحثين المعاصرين الذين أكدوا مكانتها بين أهم المدن العلمية في الجزيرة العربية.
ويكفيها فخراً أن يكون الصحابي أبو موسى الأشعري، أحد أبرز قادة الدعوة الإسلامية في تهامة، مؤسس أول مساجدها، ومسؤولاً عن ولايتها بأمر من النبي محمد، الذي دعا لها قائلاً "اللهم بارك في زبيد وأهلها".
منارة علمية تنافس مكة والمدينة
يشير المؤرخ اليمني عبده علي عبدالله إلى أن زبيد كانت ثالث أهم مركز علمي في الجزيرة العربية بعد مكة والمدينة، وتعرف بين أهل اليمن بـ"مدينة الفقهاء والعلماء"، لاحتضانها مئات المدارس الدينية، وكونها مقراً دائماً للعلماء والمفسرين وحفظة الحديث، إضافة إلى طلاب العلم الذين قصدوا مدارسها من الحجاز والمغرب ومصر والهند.
وقد لعبت هذه الحاضرة دوراً رئيساً في تخريج أجيال من القضاة والمفتين والفلاسفة والمفكرين، بفضل منظومة متكاملة من الأربطة والمدارس، منها "مدرسة الأشاعرة" و"مدرسة الجبرتي" و"مدرسة المحجوب"، وغيرها، التي أسهمت في ترسيخ تقاليد العلم الإسلامي قروناً طويلة.
هندسة تروي التاريخ بالحجارة
على رغم بساطة عمرانها الطيني، فإن زبيد تتميز بهندسة معمارية استثنائية، تعكس روح البيئة التهامية ومهارة البناء المحلي، فبيوتها الواسعة، وأبوابها الأربعة التاريخية، ومساجدها التراثية، مثل "مسجد الأشاعر" الذي شيد في العام التاسع للهجرة، ما زالت قائمة على رغم عوامل التعرية والإهمال.
وهذا المسجد، الذي يعد ثاني أقدم مسجد في اليمن بعد جامع صنعاء الكبير، تحول إلى مركز إشعاع علمي وروحي، ويضم اليوم مكتبتين لمخطوطات نادرة ومدرسة دينية ومقصورة للنساء وصحناً مكشوفاً تتوسطه المآذن والمحراب.
كما تحتضن المدينة معالم أثرية أخرى مثل "قلعة زبيد" التي استخدمت على مر العصور مقراً للوالي والحامية العسكرية ومركزاً للواجبات والزكاة، إلى جانب السوق التاريخية، وسور المدينة المندثر وأبوابه الأربعة: باب سهام (شمالاً) وباب القرتب (جنوباً) وباب الشباريق (شرقاً) وباب النخل (غرباً).
عاصمة سياسية ومركز لوجيستي للحج والقوافل
لم تكتف زبيد بدورها العلمي، بل كانت أيضاً عاصمة سياسية لمخلاف تهامة، الذي امتد في بعض العصور من عسير شمالاً إلى عدن جنوباً. وتناوبت على حكمها دول عدة يمنية، مثل "الزيادية" و"النجاحية" و"الدولة الرسولية" و"الطاهرية"، وحتى "المماليك" والعثمانيين في طورهم الأول، إلى أن فقدت مكانتها الإدارية لمصلحة مدينة تعز في القرن السادس الهجري، لكنها احتفظت بدورها العلمي والديني.
ومن أبرز ملامح موقعها الجغرافي أنها كانت محطة رئيسة على طريق القوافل التجارية القادمة من الحجاز إلى عدن، كما عبرها الحجاج اليمنيون والهنود والآسيويون في طريقهم إلى مكة، مما عزز مكانتها الاقتصادية والاجتماعية والدينية في آن.
من التراث إلى الخطر
عام 1993 أدرجت منظمة اليونيسكو زبيد على قائمة التراث الإنساني العالمي، اعترافاً بأهميتها التاريخية والمعمارية، إلا أن ضعف أعمال الصيانة وتداعيات الحرب اليمنية والتوسع العشوائي باستخدام الأسمنت، دفع المنظمة عام 2000 إلى نقل المدينة إلى قائمة التراث المعرض للخطر.
ويؤكد المؤرخ عبده علي أن المدينة بدأت تعاني الإهمال منذ ما بعد ثورة 1962، عندما سمح ببيع أجزاء من الدرب القديم، وسرقت حجارتها ليلاً، وشوه طابعها المعماري بفعل إدخال الأسمنت والخرسانة. وتفاقمت الأزمة مع تآكل "القشلات" العسكرية، وهي مبان تقليدية كانت تأوي الجنود وتحمي أبواب المدينة حتى باتت مهددة بالزوال.
وعام 2024 تعرضت قلعة زبيد لانهيار جزء من واجهتها الشمالية، وسقطت أجزاء من أسقف ثكناتها الغربية، في مؤشر آخر إلى الحاجة الملحة إلى تدخل دولي ومحلي لإنقاذ ما تبقى من هذه الجوهرة المنسية.
على رغم ما تمر به من تراجع وتهميش، فلا تزال زبيد تحتفظ بهيبتها التاريخية، وبهويتها الأصيلة التي تجمع بين الإنسان والأرض والمعرفة.
محمد الخطيب
صحافي يمني