أقدم عيد في تاريخ البشرية.. سوريا تعيد إحياء "أكيتو" بطقوس فريدة
تعتبر سوريا شاهداً حيّاً على الحضارة الإنسانية العالمية، نظراً لما تحتويه من كنوز تاريخية وآثار ثقافية ومعالم فريدة تؤكد دور البلاد في قيام الحضارات القديمة الكبيرة، ولعلّ أبرز تلك الشواهد على الدور السوري في الحضارة الإنسانية هو عيد "أكيتو".
"أكيتو" هو رأس السنة الآشورية البابلية، ويعتبر أقدم عيد في تاريخ البشرية، يحتفل به الأشوريون والكلدان والسريان في سوريا والعراق مطلع شهر نيسان/أبريل من كلّ عام، على الرغم من أن هؤلاء لا يدينون بأديان الحضارات القديمة التي سادت في بلادهم قبل آلاف السنين، لأنهم يعتنقون اليوم الديانة المسيحية، لكن احتفظوا بتقاليد الأجداد القدماء في إحياء هذا الطقس السنوي، والذي يصادف هذا العام 6774 وفقاً للتقويم المعمول به لديهم.
يشكّل الاحتفال بعيد "أكيتو" مناسبة اجتماعية لها طقوسها الخاصة وملابسها التقليدية في منطقة الجزيرة شمال شرق سوريا، حيث يكرر المحتفلون بالعيد ما كان يفعله أجدادهم من أهازيج ورقص، إضافة إلى تأدية مشاهد درامية فلكلورية تشبه أسطورة انبعاث الحياة من الأرض بعد الشتاء، ولا تقتصر تلك الاحتفالات على مكانٍ محدد، بل تقام في مناطق مختلفة، خاصّة بعد عودة الحياة إلى طبيعتها تدريجياً وانحسار الأعمال العسكرية التي حدّت من الاحتفالات والطقوس الخاصّة بهذه المناسبة في بداية الأزمة السورية.
بعد اندلاع الحرب على سوريا وسيطرة الفصائل الإرهابية المسلحة على شمال شرق البلاد، ولاحقاً تمدد "قوات سوريا الديمقراطية" في الجزيرة السورية بدعم أميركي، تراجعت الاحتفالات والطقوس الخاصّة بعيد "أكيتو" إلى الحدود الدنيا، واقتصرت على بعض التجمعات الاحتفالية الصغيرة داخل المنازل، حيث غابت المهرجانات والمواكب عن الساحات العامة بشكلٍ كامل.
في تلك الفترة تعرّض أبناء المنطقة من الأقليات لاضطهاد كبير من قبل الفصائل المسلحة، التي سعت إلى تهجيرهم وإجراء تغيير ديموغرافي في الشرق السوري؛ ولم يتغير الحال كثيراً بعد سيطرة "قسد"، حيث استخدمت القوات أسلوب "التضييق" على جميع الطقوس الاجتماعية بهدف فرض سلطة "الأمر الواقع"، وعملت الجماعة الكردية على سياسة "التجنيد الإجباري" بحق الشباب من العرب والأقليات بهدف سوقهم إلى مراكز التدريب العسكري، وتجنيدهم كمقاتلين ضمن صفوف "قسد".
بعد هدوء وتيرة المعارك العسكرية، وانتشار الجيش السوري في بعض النقاط شمال شرق سوريا، وتحديداً ضمن مدينة القامشلي وريفها على الحدود السورية - التركية، عادت الاحتفالات والطقوس الاجتماعية الخاصّة بعيد "أكيتو" تدريجياً، لكنها لم تصل إلى المستويات التي كانت موجودة قبل الأزمة، حيث يقتصر الاحتفال اليوم على تجمع مركزي في قرية "الوطواطية" في ريف القامشلي، وبعض الفعاليات الصغيرة في قرى وبلدات أخرى من الشرق السوري.
طقوس فريدة في الجزيرة السورية
"أكيتو" في جذوره القديمة الأولى كان عيداً شعبياً لجز صوف الماشية والأغنام، وكان يُحتَفَل به بين شهري آذار/مارس ونيسان/أبريل، ويُمثل رأس السنة الجديدة "الاعتدال الربيعي"، ثم أصبح من المتعارف عليه الاحتفال به في اليوم الأول من شهر نيسان/أبريل من كل عام؛ وعلى اختلاف أساطير الحضارات القديمة، كان يعتقد أن عودة الربيع تعني صعود الإله "دموزي" من عالم الأموات، وعودته إلى الحياة، كما تعود البذور إلى الحياة من جديد بحلول الربيع وتتجدد الطبيعة، لذلك كان "أكيتو" في الحضارة البابلية، عيداً للزرع وتحضير التربة للبذور والسقي.
وفي بعض الروايات القديمة فإن الملك كان يركب على عربة، ويشد الشعب أذنه، في دلالة على ضرورة أن يصغي الملك للشعب، وأن تكون كلمة الشعب مسموعة وأن الشعب هو الفيصل، ويجب أن يصغي الملك للشعب، وفي النهاية يقول الملك للشعب: "اجلسوا مكاني".
تبدأ الاحتفالات بعيد "أكيتو" يوم 1 نيسان/أبريل من كل عام، وتستمر في بعض المناطق شمال شرق سوريا لمدة اثني عشر يوماً، حيث يحتفل السوريون من الآشوريين والسريان وغيرهم وفق طقوس متعارف عليها منذ سنوات طويلة، ولعلّ أبرز تلك الطقوس هي الاجتماعات العائلية والزيارات المتبادلة لتقديم التهاني بالعيد، كما يتم توزيع الحلوى وإقامة المهرجانات والكرنفالات في الساحات العامة.
تقويم "أكيتو" السوري يسبق كلاً من التقويم العبري بألف عام، والتقويم الفرعوني بـ 500 عام كاملة، وهو عيد الاحتفال بالخصب والربيع واستمرت البشرية باتباعه لفترة طويلة قبل أن يتغير إلى التقويم الحالي، وبدأت الاحتفالات الخاصة به في الألف الخامس قبل الميلاد، كما اعتمدت الحضارات المتعاقبة في سوريا هذا التقويم، فاستمر مع حضارات ماري وأوغاريت وتدمر وغيرها.
العيد يرتبط بالبداية الحقيقية للحياة، بحسب الرواية التاريخية، ونهاية موسم المطر والبرد وبداية الربيع والخصب والزراعة، وكما هي الحال مع أعياد الربيع الأخرى، مثل النوروز لدى الإيرانيين والكرد، وشم النسيم لدى المصريين، يحفظ الأشوريون والكلدان والسريان تقاليد الحضارات البابلية والسومرية والأكادية والكلدانية القديمة.
يختلف المؤرخون حول معنى كلمة أكيتو الدقيق، وقد فسرها البعض بأنها تقريب الماء من الأرض، فيما يفسرها آخرون بأنها بذر القمح، وفي الغالب فإن "أكيتو" تعني "الحياة"، وكلمة "أكيتو" كانت تسمى أو تُلفظ عند بعض الساميين "حِجتو" وذلك في اللغة الأكادية، أما في اللغة السريانية الآرامية فلا تزال كلمة "حج" تعني الاحتفال إلى اليوم، أما في اللغة البابلية القديمة فقد تمت تسمية هذا العيد "ريش شاتم"، أيّ رأس سنة، وفي لغة "السورث" المحكية حتى اليوم في العراق من قِبَل الكلدان لا يزال يلفظونها: "ريش شاتة" أي رأس السنة.
الباحثة التُراثية سيلفا الآسيا تقول: "إن الاحتفال بعيد أكيتو يأخذ طابعاً كرنفالياً متوارثاً يتجدد في الأول من شهر نيسان من كل عام، لدى كل من يحتفل برأس السنة البابلية الآشورية، حيث تقام الاحتفالات في كل دول العالم التي يتواجد فيها الكلدان والآشوريون والسريان وشعوب بلاد ما بين النهرين، ومنها الجزيرة السورية، كما يحرص الأهالي على التمسك بهذا التقليد السنوي، ويسعون لتوريثه إلى الأجيال الشابة، لأن هذا اليوم مقدس بالنسبة لهم".
وتتحدث الآسيا عن بعض الطقوس الخاصّة بعيد "أكيتو"، مثل الامتناع عن الزواج خلال شهر نيسان، وهو تقليد متعارف عليه ومتوارث منذ سنوات طويلة، فالأهالي يعتبرون أن شهر "نيسان" هو الفرحة الكُبرى و"العروس" الوحيدة، لذلك يجب ألا يكون هناك فرحة أخرى تنافس الفرحة بشهر الربيع، ومن يريد الزواج عليه الانتظار لانقضاء هذا الشهر.
ومن الطقوس الفريدة خلال الاحتفال بعيد "أكيتو" حسب "الآسيا" أن تخرج النساء والفتيات عند الصباح الباكر أثناء تشكّل قطرات الندى على الأزهار والأعشاب، من أجل جمع تلك القطرات ومسحها على وجوههن لإعطائهن نضارةً وجمالاً إضافياً، كما تقوم العائلات بجمع الورود والأزهار البرية لوضعها أمام المنازل، حيث تنتشر في قرى الآشوريين حلقات من الورد تسمى "دقنة نيسن" أو "دقن نيسان" وهي عبارة عن ورد أصفر وأبيض ينمو خلال فترة الربيع في البراري، وهذا التقليد يعتبر إشارة إلى عودة الربيع وتجدد الحياة.
وتؤكد الباحثة التراثية أن الاحتفالات بالعيد خلال الوقت الحالي اختلفت عما كانت عليه قبل الأزمة السورية، وتشير الباحثة إلى أن قرى "الخابور الآشورية" والتي يبلغ عددها 34 قرية بريف الحسكة، كانت تشهد احتفالات جماعية تستمر لمدة 12 يوماً، ويقيم الأهالي ولائم من الطعام التقليدي بكميات كبيرة، لكن بعد تهجير الآشوريين من قبل الفصائل المسلحة تراجعت الاحتفالات واقتصرت على بعض التجمعات في قرى محددة.
الربيع والخصوبة ونبات الأرض
لأن "أكيتو" هو عيد الفرح بالربيع، فلا بدّ من أداء طقوس ترمز إلى الخصوبة ونبات الأرض، من خلال حركات ورقصات ورموز وتمثيليات واغانٍ فلكلورية تُجسّد دور الأرض وأهمية الزراعة، وتكون تلك الطقوس إما ضمن تجمعات في الساحات العامة، أو عبر مواكب وكرنفالات تجوب القرى والبلدات، أو يخرج الأهالي إلى الطبيعة المزهرة والمخضرّة احتفالاً بهذا اليوم، ومنهم أيضاً من يتوجه إلى الكنائس لتأدية الصلوات والقداديس.
آشور يوخنا أحد الوجوه الآشورية البارزة في منطقة "تل تمر" في ريف الحسكة يؤكد أن عيد "أكيتو" يعتبر مناسبة تظهر عراقة الشعب السوري وحضارته الموغلة في القِدم، وإن كان العيد مخصصاَ لأبناء الجزيرة السورية من السريان والكلدان والآشوريين فإن باقي المكونات الاجتماعية من عرب وأكراد تشارك في الاحتفال أيضاً.
ويستذكر يوخنا الاحتفالات التي كانت تقام بهذه المناسبة في قرى الخابور الآشورية وسفح جبل عبد العزيز غرب مدينة الحسكة، قبل دخول تنظيم "داعش" الإرهابي الذي قتل ونكّل ودمّر العديد من القرى، ما دفع الآلاف من الأهالي للنزوح إلى مدن سورية أخرى أو حتى الهرب خارج البلاد خوفاً من ممارسات التنظيم الوحشية بحق الأقليات في الجزيرة السورية، لتغيب على إثر ذلك مظاهر الاحتفال بالعيد في قرى وبلدات عديدة.
ويشير يوخنا إلى أن التحضيرات لاحتفالات "أكيتو" تبدأ قبل 10 ايام على الاقل، وتتم عن طريق الأهالي واللجان المحلية والبلدية، حيث يبدأ الناس بشراء الأزياء التقليدية أو تفصيلها بشكلٍ خاص، وتكون في الغالب من الألوان الزاهية الغنية بالزركشات والرسومات المتعلقة بالعيد، كما تقوم العائلات بإعداد المأكولات والحلويات والمشروبات المخصصة للاحتفال، في حين تنطلق تحضيرات الفرق الفلكلورية للدبكات والرقصات المرتبطة بالتاريخ، والتي تجسد طقسين أساسيين، الأول هو "الدخول الملكي" أو ما يُسمى "موكب الملك"، أما الطقس الآخر فهو "زراعة القمح والشعير" الذي ينتهي بلوحة تزويج الفتيات والشبان بعد أن يعم الخير.
"الدخول الملكي" يعتبر أهم الطقوس في احتفالات عيد "أكيتو"، حيث تجسد فرق فنية متخصصة قصص دخول الإله "تموز" و"عشتار" و"مردوخ" في الحضارات البابلية القديمة، وكيف يجول الملك والملكة وحولهم الحاشية الكبيرة بين أبناء الشعب، ليتم بعد ذلك تنصيب الملك على عرش المملكة مجدداً، بعد أن يأخذ شرعيته من الشعب ويتعهد برعاية مصالحهم؛ وتحرص الفرق الفنية على الظهور بالأزياء التراثية الفلكلورية.
أما الدبكات التُراثية والرقصات الفلكلورية فتُقدمها الفرق الفنية التراثية الآشورية على أنغام الطبل والمزمار وبلباسهم التقليدي الذي يعكس البهجة والفرح بقدوم الربيع، حيث يتميّز الزيّ بالريشة التي تزين رأس الرجال المشاركين في الدبكات كعلامة على البهاء والشموخ، كما تقدم الفرق لوحات تعبّر عن قوة المقاتل الآشوري الذي يتفنن باستخدام سلاحه وقوته خلال مبارزة ودّية بين الراقصين.
رغم أن مناطق الجزيرة السورية تستعيد عافيتها تدريجياً وتنفض غبار الحرب عن مدنها وقراها، ويعود أهلها لإحياء طقوسهم الاجتماعية الخاصّة، إلا أن الأفراح لا تزال ناقصة، في ظل التضييق المُمارس عليهم من "قوات سوريا الديمقراطية" والدور الذي تلعبه لجرّ المنطقة لصدام عسكري جديد مع تركيا ما ينذر بعودة الأمور إلى سابق عهدها، لذلك فإن تعويل الأهالي اليوم على انسحاب القوات الأميركية وإنهاء دور "قسد" في المنطقة، ما يساهم بعودة المهجرين إلى بلداتهم وقراهم لتستعيد المنطقة عافيتها بشكل كامل.
* ديب سرحان - سوريا