
فضل شاكر: الغناء من خلف جدران العزلة
تبدو مسيرة الفنان اللبناني فضل شاكر أقرب إلى حكاية متشابكة بين الفن والحياة، بين النجم المحبوب والإنسان المتألم، في سياق لبناني مأزوم، لا ينفصل فيه الشخصي عن العام. ليست قصته مجرد رحلة فنية، بل تداخل حاد بين مراحل من الشهرة، والاختفاء، والعودة المشروطة بالشكوك والحنين في آن.
في الأعوام الأخيرة، عاد شاكر تدريجياً إلى الغناء بعد سنوات من العزلة، وهو يقيم حالياً في مخيم عين الحلوة، جنوبي لبنان، وتحديداً في منطقة المنشية، القريبة من مكان ولادته في التعمير التحتاني.
من هناك، وبأدوات بسيطة تتمثّل في كمبيوتر، وميكروفون، وآلات موسيقية محدودة، يحاول استعادة مكانته التي فقدها منذ إعلانه اعتزال الفن في عام 2012، ثم انخراطه في توجّهات دينية وسياسية أثارت سجالات كثيرة من حوله.
ورغم الظروف، فقد حقق في العام الحالي نجاحاً لافتاً بأغنيته "كيفك ع فراقي"، التي حصدت أكثر من 36 مليون مشاهدة على "يوتيوب" في أقل من شهر. هذه الأغنية، من كلمات سمر الهنيدي وألحان وائل الشرقاوي،
تنتمي إلى مقام النهاوند، وتحمل في توزيعها البسيط لمسة شرقية واضحة. ورغم غياب أسماء كبيرة عن عملية إنتاجها،
إلا أن فضل شاكر تمكن من إبراز صوته عنصراً أساسياً فيها. صوت يتميز بطبقة منخفضة ونبرة دافئة، تبرز في أداء القرارات، وتُكسب الأغنية بعداً عاطفياً عميقاً، من دون مبالغة في الزخرفة الصوتية.
حتى في مشاركته الغنائية مع نجله محمد، يحافظ شاكر على تلك السمة التي جعلت من إحساسه نجماً محبوباً.
ما يلفت في أغانيه الأخيرة هو بساطة الألحان والتوزيعات، ما يعكس إلى حد كبير ظروفه الإنتاجية المحدودة،
لكنه أيضاً يستفيد من هذه البساطة، ليقدم أداءً صادقاً، يخاطب مشاعر الجمهور مباشرة. في أغنية "أحلى رسمة"، من كلمات وألحان جمانة جمال، يمنح شاكر مطلع الأغنية طابعاً حنوناً،
ثم يدمج فيها إيقاعاً خفيفاً يعطيها مسحة راقصة، من دون أن يبتعد عن أسلوبه العاطفي المعتاد.
هذا الأسلوب ينسجم مع ملامح شخصيته التي كانت دائماً قريبة من الناس؛ فحتى في ذروة نجوميته، اشتهر بعلاقته البسيطة مع جمهوره، وتواضعه في التعامل مع الإعلام والجمهور على حد سواء. وربما ساهمت نشأته المتواضعة في صيدا في ترسيخ تلك الصورة.
وُلد فضل شاكر عبد الرحمن شمندر عام 1969، لأسرة بسيطة، وكان اسم عائلته الأصلي شمندر، قبل أن يعتمد شاكر اسماً فنياً. وعندما كان في الخامسة، وُضع في دار أيتام، في ظروف غامضة، الأمر الذي ترك أثراً عميقاً في شخصيته،
ورسّخ شعوراً مبكراً بالنبذ والعزلة والفقد، وهي مشاعر رافقته لاحقاً في محطات حياته المختلفة.
بدأ فضل شاكر مشواره الفني في أواخر الثمانينيات، عبر إحياء الحفلات والأعراس في الجنوب اللبناني، حتى التقى بصاحب شركة الخيول، الذي أنتج له أول ألبوماته عام 1998. لاحقاً، انتقلت حقوق إنتاج أعماله إلى شركة روتانا بعد شرائها "الخيول"،
وهناك بلغ ذروة شهرته، بألبومات وأغان أصبحت من علامات الغناء العاطفي في العالم العربي، مثل "يا غايب"، و"لو على قلبي"، و"يا حياة الروح".
لكن، في منعطف حاد عام 2012، فاجأ الجمهور بإعلان اعتزاله، وظهر لاحقاً بلحية وسلاح، مؤيداً لجماعة الشيخ أحمد الأسير، التي خاضت مواجهات مسلحة ضد الجيش اللبناني في عبرا،
وكان ذلك عام 2013. صدر بحقه حكم غيابي بالسجن 22 عاماً، بتهم عدة منها "المشاركة في أعمال إرهابية". لاحقاً، نفى شاكر تورطه في القتال، واعتبر ظهوره المسلح "غلطة عمره"،
مشيراً إلى أنه لم يحمل السلاح في وجه الجيش اللبناني، بل انجر إلى خيارات خاطئة تحت تأثير انفعالات دينية وسياسية. هذا التناقض بين الفنان الرقيق والموقف المتشدد، أثار تساؤلات كثيرة حول أسبابه. هل هو نتيجة خيبة شخصية؟
أم هروب من شعور داخلي بالذنب أو الاغتراب؟ بعض المقربين منه تحدثوا عن شخصية خجولة، لم تحتمل الضغط، وانجرفت نحو خيار وجد فيه نوعاً من "التكفير" عن ماضٍ غنائي، سرعان ما عاد ليعتبره جزءاً من ذاته.
عاد شاكر إلى الغناء بعد سنوات من الغياب، لكن من دون القدرة على العودة الكاملة إلى الساحة الفنية التقليدية. لا حفلات، ولا لقاءات تلفزيونية مباشرة، ولا مشاركة في مهرجانات كبرى. ومع ذلك، فإن أعماله المسجلة تحقق نجاحاً لافتاً، وهذا ما يؤكد أن علاقته بالجمهور ما زالت قائمة، على الرغم من كل الجدل حول مواقفه الماضية.
في خلفية هذه العودة تبرز معادلة دقيقة: فنان ينجح في أن يستعيد حضوره الغنائي من داخل منطقة معزولة، ومطاردة قانونية، ومن دون إمكانيات إنتاجية كبيرة. وهو في ذلك يقدم نموذجاً خاصاً: حتى في وضعه الصعب، لا يزال قادراً على التأثير في المستمعين، وإيصال مشاعره بأقل الوسائل من قلب مخيم عين الحلوة.
فضل شاكر، اليوم، هو نتاج مسيرة مليئة بالتحولات: من نجم محبوب إلى معتزل، ثم متهم، فمُطارَد، ثم مغنٍ يحاول استعادة صوته في مواجهة الصمت الذي فرضه عليه خطأه السابق. ومهما كانت المواقف حوله، فإن حضوره الفني لا يزال حاضراً بقوة، مدعوماً بإحساسه الصادق، وصوته الذي يرفض أن يصمت. في نهاية المطاف، تبدو قصة فضل شاكر شاهداً على هشاشة الشهرة، وقوة الانتماء إلى الفن. هي أيضاً صورة من صور لبنان المتقلب، الذي يسكنه التوتر والحرمان، مثلما يسكنه الأمل، حتى من خلف الحواجز والجدران. وفي هذه القصة، لا ينتصر فضل شاكر على ماضيه، لكنه يتعايش معه، عبر ما يعرف فعله جيداً: الغناء.