
سياسة التجويع... إبادة بصفر قذيفة
بعد سيرة تفتيت الجسد الفلسطيني إلى أشلاء، وصلنا إلى مرحلة سيرة تجويعه. وما أقبح الجوع، وأفدح ما يفعله بالروح التي تتضرّر أكثر من الجسد الذي يفنى وصاحبه على قيد الحياة.
لا نكاد نجد سبباً يجعل الإجرام الصهيوني يصل إلى هذه الدرجة. بلى، هناك سبب قوي، تكثيف وتيرة الإبادة حتى الموت أو التهجير. لدفع الذين كانوا يتحمّلون القصف، ويهربون بحيوات أُسرهم من شمال غزّة إلى جنوبها والعكس، إلى الاستسلام،
فالعدو اختار قذيفة الجوع لمحو الجسد الغزّي بقتله من الداخل. وبدل القتل المكلّف الذي استنزف المخزون الإسرائيلي من الأسلحة، أمامنا نوعٌ آخر، كل ما يتطلبه منع وصول المساعدات الغذائية.
والذين لم يقبلوا الهجرة من قبل، لعلهم، وفق هذه الخطة، يجرّون أجساد أطفالهم الهزيلة للخروج من فخّ الموت التي حولت إسرائيل غزة إليه.
غرض الإبادة قتل أكبر قدر ممكن من الأبرياء لدفع أكبر قدر ممكن من الناجين إلى مصيدة التهجير. وبقدر بشاعة جريمة التجويع هذه، فإنها ليست جديدة،
فلطالما كانت الإبادة بالتجويع سياسة إجرامية في عدة حروبٍ أعلنتها دول استعمارية على أوطان أخرى. والأولى عدم وصفها بالحروب، لأن الحرب نزاع مسلح بين طرفين أو أكثر. وحروب الجوع غير متكافئة في سياق الإبادة.
في أبرز الأمثلة المعاصرة لاستخدام التجويع سلاحاً في الحرب، حصار النازيين لينينغراد في روسيا (1941–1944)، قرابة سنتين، مات بسببه حوالي مليون مدني جوعاً، سعياً إلى إبادة السكان من دون قتال.
بينما حاصرت القوات الصربية سراييفو (1992–1996)، ومنعت الغذاء والكهرباء، ما أدّى إلى مقتل آلاف بسبب الجوع.
في سورية، فرضت قوات النظام السابق حصاراً على منطقتي الغوطة ومضايا (2013–2016)، ما أدّى إلى حالة جوع شديدة ذهب ضحيتها آلاف.
في اليمن تسببت الحرب الأهلية الدائرة منذ عشر سنوات بحصار الموانئ والمنشآت الغذائية، ما تسبب في أزمة أفظع من الخيال، مع ملايين الجوعى والمحرومين.
وعبر التاريخ، استُخدم التجويع سلاح إخضاع لدفع الضحايا إلى النزوح أو الاستسلام وتفكيك لحمة الانتماء إلى وطن، فهو لا يُستخدم فقط أداة قتل، بل وسيلة لإعادة رسم الجغرافيا السكانية.
والأسوأ من التجويع وضع الضحايا في أوضاع مستحيلة، بقصف مناطق توزيع المساعدات، فعلى الجائع الاستسلام لقدر الموت جوعاً أو التوجه لتلقي مساعدات ضئيلة قد يدفع ثمناً لها الموت الفوري، من أجل كيس طحين.
في سيرة التجويع، سنة 1944 ضربت موجة الجفاف المغرب، الأمر الذي تسبّب في ندرة المواد الغذائية، التي كان يستفيد منها المستعمر قبل المغاربة، ويتحكّم في الزراعة وتوزيع المحصول، فاحتكر المستعمر الفرنسي الموارد القليلة،
ولم يكن أمام أهل البلد سوى الاجتهاد في إيجاد مصادر غذاء، حتى لو اضطرّوا لتناول أوراق الأشجار والحشرات.
في غزّة، تفوق مشاهد التدافع في قسوتها مشاهد القصف. فبعد كل مرّة تدخل فيها شاحنات مساعدات، يُسجّل سقوط شهداء وإصابات بالعشرات، في مراكز التوزيع. عدا ضحايا التدافع، في مرّات عديدة... فهل يعرف أحدُنا شعور الجائع منذ أشهر؟
بأعمالها الإجرامية، تحوّل إسرائيل جهود الإغاثة إلى أداة سياسية، عبر منع المنظمات الدولية من توصيل المساعدات، أو تستغلها لأغراض سياسية، أو تستعملها سلاحاً عسكرياً. ما يعيد إلى الأذهان مجازر تاريخية ارتبط فيها التجويع بأهداف الإبادة والسيطرة.
لكن الفرق أننا لم نشاهدها يوماً بعد يوم، ولم ترافق بموجة مسعورة من القتل الأعمى.
لا يكتفي الجوع بالتسبب في تلاشي الجسد، بل يدفع النفس البشرية إلى حدود القهر والموت البطيء، كما أورد الكاتب النرويجي كنوت هامسون في روايته "الجوع".
لكن جوع بطل الرواية العاجز عن إيجاد عمل يعتق بطنه من بطش الجوع لا يشبه جوع الغزّي المحاصر كلياً. حيث تبلغ نسبة الجوع أشدّها حتى يتهاوى الجائع هيكلاً فارغ الحياة، ونخبّئ وجوهنا كلما مرّت أمامنا صور الجائعين البليغة.
عائشة بلحاج
صحافية وشاعرة مغربية.