الفراغ القيادي وصعود المشاهير في اليمن
في السنوات الأخيرة، ومع استمرار الحرب في اليمن لأكثر من عقد، برزت ظاهرة لافتة في فضاء التواصل الاجتماعي: تصدُّر "المشاهير الشعبيين" المشهد العام، في وقت غابت فيه الوجوه السياسية والأكاديمية والاجتماعية التي كانت تُشكّل سابقًا مراكز الثقل والتأثير.
وتُمثل الظاهرة انعكاسًا لتحولات نفسية واجتماعية فرضتها الحرب وواقع الانهيار الذي تمر به البلاد.
من بين هؤلاء يبرز أبو حيدر العولقي، الذي كان يعمل مزارعًا في قريته النائية بإحدى مديريات محافظة إب، ثم دخل عالم السوشيال ميديا عبر مقاطع بسيطة، وبدأ يقود حملات لتخفيض أسعار السيارات والجوالات، ليتحول لاحقًا إلى شخصية واسعة الانتشار.
بات يتنقل بين المدن والقرى بلهجة قريبة من الناس ويحضر افتتاح المحلات والفعاليات الاجتماعية. لم يكمل تعليمه الثانوي، ولا يتحدث في السياسة، لكنه يحظى بآلاف المشاهدات يوميًا، وكأنه أصبح أحد أبرز وجوه "مجتمع الحرب".
وإلى جانبه، برزت أسماء أخرى مألوفة في فيسبوك وتيك توك، تقدم محتوى عفويًا بسيطًا، أحيانًا مشوبًا بالتهريج والسطحية، لكنها تجد متابعة واسعة تفوق أحيانًا متابعة السياسيين والإعلاميين التقليديين.
هذه الظاهرة تستحق نقاشًا ودراسة موضوعية، لأنها تعكس تحولات اجتماعية ونفسية عميقة فرضتها الحرب. فمن منظور نفسي، يمكن تفسير الانجذاب الجماهيري نحو هذا المحتوى البسيط بوصفه بحثًا عن الحياة الطبيعية المفقودة.
ففي ظل النزوح والانهيار الاقتصادي وتدهور الخدمات، يعيش المجتمع حالة من صدمة ممتدة وإرهاق نفسي مستمر.
الأخبار مثقلة بالموت والصراع، والخطاب العام مشحون بالسياسة والانقسامات. في هذا السياق، يظهر محتوى "المشاهير الشعبيين" مساحةً خفيفة تمنح المشاهد فرصة لالتقاط أنفاسه، وتعيد إليه شيئًا من إيقاع الحياة اليومية العادي.
هذه المقاطع القصيرة، الكوميدية أو الخدمية، تُقدَّم بشكل عفوي لا يثير القلق، بل يخلق إحساسًا بالألفة، لتصبح بمثابة "مسكّن نفسي" يخفف من وطأة الشعور بالعجز وهروبًا من الواقع المُلبد بالصراع.
قبل الحرب التي أشعلتها جماعة الحوثي المسلحة، كان للسياسيين والمفكرين والكتاب وزعماء الأحزاب والبرلمانيين حضور واسع في المشهد العام.
كانت الجامعات والمراكز الثقافية على ضعفها مساحات للنقاش وتشكيل الوعي، وكانت الدولة، ولو بحدها الأدنى، تؤدي دور الحاضنة للمؤسسات والمجتمع.
لكن مع دخول البلد نفق الحرب، تعطلت الحياة الأكاديمية والثقافية، وانهارت مؤسسات الدولة، وتعرضت النخب المؤثرة من أكاديميين ومثقفين وإعلاميين للملاحقة والاختطاف وقطع المرتبات ومصادرة الممتلكات، فاضطر كثير منهم للنزوح أو مغادرة الوطن بحثًا عن الأمان.
هذا التراجع القسري خلّف فراغًا رمزيًا في المجتمع، دفع الجمهور، وخاصة الشباب، للبحث عن مرجعيات بديلة أكثر قربًا وسهولة في الوصول.
ولا يمكن إغفال الجيل الجديد الذي نشأ في ظل الحرب، أو ما يُعرف بجيل زد. هذا الجيل ولد في العصر الرقمي، وتلقيه للمعلومات قائم على الفيديوهات القصيرة والمحتوى السريع.
هو أقل ارتباطًا بوسائل الإعلام التقليدية وأكثر حضورًا وتفاعلاً في منصات مثل فيسبوك ويوتيوب وتيك توك، حيث يتصدر المشاهير الشعبيون المشهد لديهم لغياب البدائل المؤسسية والإعلامية المؤثرة.
ومع استمرار اليمنيين في معركة استعادة الدولة وتحريرها من المشاريع الهدامة والتدخلات الخارجية، تبدو عودة التأثير للشخصيات الوازنة والمؤثرة ممكنة، لكنها تتطلب استراتيجية جديدة تتكيف مع الواقع الرقمي.
لا يكفي انتقاد الظاهرة أو وصفها بالتفاهة؛ المطلوب فهم أسباب انتشارها والعمل وفق قواعد العصر. على النخب أن تعيد صياغة حضورها، وأن تتواصل مع الجمهور بلغة واضحة، وبأساليب حديثة، السرد البسيط، والتفاعل المباشر مع قضايا الناس.
في النهاية، تصدُّر المشاهير الشعبيين للمشهد ليس سببًا للمشكلة، بل نتيجة طبيعية لفراغ الرمزيات الذي أحدثته الحرب.
إنها دعوة للنخب والمؤسسات لإعادة النظر في أدواتها وخطاباتها، والدخول إلى الميدان الرقمي بفاعلية، ومخاطبة الجيل الجديد بلغة قابلة للفهم والتفاعل، بما يساعد المجتمع على استعادة وعيه وصلابته،
بالتوازي مع السعي نحو الحلول الكبرى التي تبدأ بإنهاء الحرب واستعادة الدولة.
عبدالباسط الشاجع
صحفي وباحث يمني.