نفاق رئيس واستبداد إمبراطورية!
«الشعوب الشعوب أكثر أهميّة من البقاء في السلطة… نحن هنا لنخدم الشعوب وليس العكس».
عبارة قالها الرئيس الأميركي جو بايدن أثناء إلقاء خطابه في الجمعيّة العامة للأمم المتحدة يوم 24 الحالي، والتي تذكّرنا بخطاب رئيس وزراء بريطانيا وليام غلادستون في مجلس العموم البريطاني، في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، جاء فيه: «إنّ بريطانيا ستظلّ تمارس سياستها، وتؤدّي رسالتها الإنسانية خدمة للمجتمع الدولي».
انبرى له أحد أعضاء مجلس العموم، وهو هنري لابوشير مقاطعاً وموجهاً كلامه له قائلاً: «إننا أكبر اللصوص وقطّاع الطرق في زماننا. ولأننا منافقون وخبثاء، فإننا أسوأ بني البشر. إننا نقتل وننهب أموال الناس، ثم ندّعي أنّ ذلك خدمة للمجتمع الدولي».
أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدّث بايدن عن الهجوم الذي تعرّضت له الولايات المتحدة يوم 11 أيلول/ سبتمبر 2001 على يد القاعدة وبن لادن، لكنه لم يقُل من احتضن ودعم بن لادن والقاعدة في حربها ضدّ السوفيات على مدى سنوات بالمال والسلاح. لقد تباكى على الـ 2461 قتيلاً عسكرياً أميركياً وجرح الآلاف في أفغانستان، لكنه لم يذكر قتل عشرات الآلاف من المدنيين، وأكثر من مئة ألف جريع على يد الآلة العسكرية الأميركية والغربية في أفغانستان. قال بايدن: «دافعنا عن ميثاق الأمم المتحدة… وسندافع عن المبادئ التي توحّدنا، وسندافع ضدّ العدوان، وسننهي الأزمات الدولية… روسيا غزت أوكرانيا، ولكن لم نقف موقف المتفرّجين، وهذا عدوان ضدّ هذه المنظمة».
لم يكن بايدن شفافاً صادقاً مع نفسه عند كلامه عن روسيا وأوكرانيا. أليست الولايات المتحدة نفسها، مَن كان وراء توسيع نطاق الحلف الأطلسي الجغرافي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1992 ضدّ روسيا وما شكله هذا التوسع من تهديد للأمن القومي الروسي؟! مَن حرّك بعد انهيار المنظومة الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة في العالم، مَن أعاد تسخينها من جديد في أماكن عديدة من العالم، وبالذات في دول في المنطقة المشرقية وفي أوكرانيا وجنوب بحر الصين! مَن كان وراء الثورة البرتقالية في جورجيا وأوكرانيا، واستفزاز روسيا، والمجيء بزيلينسكي على رأس السلطة!
قال بايدن إنّ الولايات المتحدة متمسكة بمقارعة الإكراه العسكري في جنوب بحر الصين، ومتمسكة بالاستقرار في منطقة تايوان، فيما تستمرّ واشنطن بكلّ قوة بدعم انفصال تايوان، والحؤول دون انضمامها الى الوطن الأم.
قال بايدن: شهدنا أهوال 7 أكتوبر، حماس غزت دولة سيّدة! فمتى كان شعباً تحت احتلال دولة عدوة يغزو أرضها يا سيد بايدن! قال إنّ حماس ذبحت 1200 شخص بينهم 46 أميركياً، وارتكبت العنف الجنسي ضدهم، وأخذت 250 رهينة. لكن بايدن لم يكن شفافاً وجريئاً كي يذكر أمام المنظمة الدولية، أرقام أكثر من أربعين ألف شهيد وأكثر من مئة ألف جريح سقطوا حتى الآن في غزة، ولم يحثه «ضميره» ليشير بكلمة واحدة إلى المجازر والإبادة الجماعية التي ارتكبها ويرتكبها جيش دولة الإرهاب الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية ولبنان، ولا عن حصار وتجويع قطاع بأكمله ما حوّله الى أكبر سجن في العالم، وتدمير أكثر من 80% من مدنه وأحيائه، وتهجير مليونين من سكانه!
تأثر بايدن الصهيوني كما يحلو له الوصف، خطف 240 مستوطناً محتلّاً، لكنه لم يتكلم عن قتل أكثر من 25 ألف امرأة وطفل، ولا عن قتل مئات الإعلاميين والأطباء، وعمال إغاثة، وأساتذة جامعيين، وأكثر من مئة ضحية يعملون في وكالات غوث أممية.
لم يقل بايدن إنّ الحروب المشتعلة في المنطقة هي نتيجة استمرار «إسرائيل» في احتلالها للأرض، ورفضها المطلق للدولة الفلسطينية، وتعمّدها التمرّد على القرارات الأممية، ونتيجة سياسات الولايات المتحدة الخبيثة بالذات، التي أفشلت مشاريع القرارات المتعلّقة بالقضية الفلسطينية، والاحتلال «الإسرائيلي» لأراضٍ عربية، حيث استخدمت منذ عام 1972 وحتى اليوم 47 مرة حق النقض (الفيتو). فيما واشنطن لم تتوقف يوماً عن تقديم كافة وسائل الدعم العسكري لدولة الإرهاب.
لم يشر بايدن، الغيور على السلام، والأمن في العالم، الى مذكرة التفاهم مع «إسرائيل» النافذة منذ عام 2018 وتنتهي عام 2028، التي تتيح لها الحصول على مساعدات عسكرية قيمتها 38 مليار دولار، وأنّ 70% من الأسلحة التي تسلمتها «إسرائيل» بين عامي 2019 و2023 مصدرها الولايات المتحدة، بالإضافة الى اتفاق بين واشنطن وتل أبيب يلزم الولايات المتحدة بمساعدة «إسرائيل» على التفوق العسكري النوعي في الشرق الأوسط.
لم يتفوّه بايدن «الحريص» جداً على حرية الشعوب، والسلام، وإنهاء الحروب، بكلمة واحدة عن موقف محكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية حول المجازر ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب التي ترتكبها دولة الإرهاب، وتصويت بلاده ضدّ قرار الجمعية العامة القاضي بالاعتراف بدولة فلسطين، الذي يعبّر عن الإرادة والموقف النبيل للأمم المتحدة، فيما صوّتت الولايات المتحدة ضده، لتثبت مرة أخرى مدى انحيازها، ووقوفها بكل وقاحة ضد ارادة المجتمع الدولي.
«تباكى» بايدن على الديمقراطية في العالم، ليقول: «مجلس الأمن والأمم المتحدة ينبغي لهما العودة الى مهمة صنع السلام، وإنهاء الحروب. علينا وقف انتشار الأسلحة المدمرة، علينا ان نضمن الاستقرار في هاييتي وشرق أفريقيا… انّ الشعوب الشعوب، أكثر أهمية من البقاء في السلطة…
شعوبكم أكثر أهمية، نحن هنا لنخدم الشعوب وليس العكس»! لم يقل بايدن ما الذي تفعله أكثر من 800 قاعدة عسكرية أميركية في العالم، والمصانع العسكرية الأميركية التي تنتج أسلحة الدمار الشامل، ولا عن تزويد واشنطن «إسرائيل» بأحدث الأسلحة الفتاكة في العالم! أراد بايدن ان يطلّ على المجتمع الدولي كحام للشعوب، وحمامة سلام، وأيادي الولايات المتحدة ملطخة بدماء الشعوب، ومنغمسة في كلّ الحروب المتفرقة التي تجتاح العالم!
من حمى الدكتاتوريات في أميركا اللاتينية، ومن عمل على الإطاحة بالأنظمة الوطنية التي جاءت بها الشعوب عبر انتخابات نزيهة غير الولايات المتحدة؟! من قضى على الأنظمة الوطنية في أفريقيا والشرق الاوسط وفي آسيا، ودعم ورعى الحركات الانفصالية والطائفية، والإرهابية في المشرق العربي؟
أليست الولايات المتحدة من فعَل ذلك، وباعتراف باراك أوباما وهيلاري كلينتون؟
تحدث بايدن عن حلّ الدولتين بعد قيام «إسرائيل» بزرع 144 مستوطنة حتى الآن في الضفة الغربية، عدا المستوطنات العشوائية بمباركة أميركية. لم يشر السيد بايدن الى ذلك، لا من قريب أو بعيد، ولا الى عدم قانونية المستوطنات التي تعيق ايّ حلّ لإقامة الدولة الفلسطينية، خاصة بعد اعتراف أميركا بضمّ القدس الشرقية الى كيان الاحتلال.
يريد بايدن «التصدي لخطر إيران، مع ضمانة منه ان لا تحصل طهران على القنبلة الذرية».
وماذا عن السلاح النووي الذي تمتلكه دولة الإرهاب يا سيد البيت الأبيض؟! ألا يعنيك هذا، ام أنكم تعوّدتم على ممارسة سياسة النفاق، والخداع، والانحياز الأعمى، والتضليل، وعدم الجرأة على قول الحقيقة، نظراً للسوط «الإسرائيلي» ولوبياته اليهودية المسلط على أنفاسكم ورقابكم!
أقوالكم وأفعال إمبراطوريتكم العظمى يا سيد البيت الأبيض، لا تتمشى بأيّ شكل من الأشكال مع المبادئ «الشريفة السامية» التي تتشدّقون بها.
تاريخكم حافل بما ارتكبتموه من حروب، وتطهير عرقي، وإبادة جماعية، ومجازر، وتمييز عنصري، واضطهاد، واستغلال للشعوب، حيث لم يعد لديكم صدقية عند غالبية أمم العالم التي فقدت الثقة بإمبراطوريتكم، وبعد ان عانت الكثير منكم، ومن ممارسات سياساتكم المستبدة.
كلامكم المنمّق يا سيد البيت الأبيض، الذي تصوّرون فيه الامبراطرية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، على أنها راعية للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وتعمل على تحقيق السلام ورفاهية الشعوب، واستتباب الأمن والاستقرار والعدالة في العالم، ليس إلا ذرّ الرماد في عيون قادة وممثلي الدول في الأمم المتحدة. إن إمبراطوريتكم الأميركية، تبقى على الدوام الوريث المستبد، والوجه القذر لدول الاستعمار الغربية السابقة، تسلك نهجها وأكثر، في حروبها المتنقلة، وفي سلوكها الذي يضمن لها الهيمنة، والسيطرة، والاستغلال، وممارسة سياسة الظلم، والحصار، والإكراه، وإثارة الفوضى، وقلب الأنظمة، وإشعال النزاعات الطائفية والانفصالية في كلّ بلد يرفض الدخول الى بيت الذلّ، والعبودية، والاستغلال والقهر… بيت الطاعة الأميركي!
*وزير الخارجية والمغتربين اللبناني الأسبق