مؤتمر الشباب: حفلة تنكرية في جنازة مدينة
في المدينة التي نُزعت أضلاعها ولم يتبقَ منها إلا شهيق الألم وزفير الفساد، قرر بعض "شباب الأحزاب بتعز " إقامة مؤتمر للشباب.
لا، ليس مؤتمرا للماء، ولا للكهرباء، ولا للصحة، ولا للنظافة، بل مؤتمرا للهز بالرؤوس، والتقاط صور السيلفي بجانب المحافظ، والسعي الحثيث للحصول على "نصيب شرعي" من فساد السلطة.
نعم، هؤلاء الذين كانوا بالأمس ينددون بالفساد صاروا اليوم ضيوف شرف في خطبته، ويهزون رؤوسهم كما لو كانوا حبات خشخاش في مهب الريح.
لا مبدأ ولا موقف، فقط شهية مفتوحة على المناصب، وهمة عالية في استثمار الألم العام لصالح المكاسب الشخصية.
على إن تعز اليوم في قاع الأزمة: لا ماء، لا كهرباء، لا صحة، لا خدمات، ولا حتى أدنى احترام لعقل المواطن.
المدينة التي قدمت الشهداء تلو الشهداء، صارت منصة لعروض سياسية هزلية تسمى "مؤتمر الشباب".
وكأن كل ما ينقص المواطن الذي لا يجد ماء يشربه، ولا كهرباء تضيء له ليله، هو مؤتمر يُقام ليتحدثوا عن "الرؤية" و"التمكين" و"شيخوخة الهيكل الإداري".
ولكن أين هي هذه "الرؤية" التي لم تستطع أن ترى الجوع في عيون الأطفال؟
أين هي من الأحياء التي لم تعرف شيئا اسمه خدمات منذ سنوات؟
ثم ما معنى أن تتحدث عن حلول بالقانون بينما القانون ذاته أُعدم على بوابات الفساد؟
ويا سادة، أنتم لا تمثلون الشباب، أنتم تمثلون أنفسكم، وتمثلون أحزابكم، والسفارات.
فضلا عن مستقلين فهلويين تمثلون الطموحات الصغيرة التي تشبه تماما عناوين مؤتمراتكم الكبيرة.
والسؤال الأبسط: هل مؤتمر الشباب يوفر ماء؟ هل يخفف من انقطاع الكهرباء؟ هل يزيل القمامة من الشوارع؟ هل يعالج المرضى؟
الجواب، كما تعلمون، لا. هو مجرد مهرجان صوتي يُقام لتضليل المواطن، وتمكين "النشطاء" من الحصول على لقب "ممثلين عن الشباب" كي يقفزوا من فوق صفوف العاطلين إلى كراسي المناصب.
ولكن ما هذا العبث؟
أين ضميركم هل تحولت تعز من ساحة للنضال إلى قاعة اجتماعات؟
هل باتت الثورة مجرد خطاب يلقى، وتوقيع يمرر، ومحضر يُعتمد؟
كيف لمن يُنادي بالدولة المدنية أن يسكت عن استحمار المواطن، بل ويشارك فيه؟
طبعا منهم من يزعم النضال وهو بلا ضمير، يتحدث عن الثورة وهو غارق في نعيمها، يجلس في الصفوف الأمامية ببدلة فاخرة وقلب بارد.
شباب من فئة "مليونيرات النضال"، غايتهم الوحيدة التلميع، ويصطف خلفهم شباب "صرفة القات" يصفقون لكل كلمة، كأنها وحي منزل.
صدقوني ما يجمعهم ليس قضية، بل شِلة مصالح تتقن تمثيل الوجع لكنها لا تشعر به.
النضال عندهم مشروع استثماري، والمبادئ مجرد ديكور يُعرض في المؤتمرات ثم يُركن في شنطة السيارة بعد انتهاء التصوير.
بمعنى أدق هي شلل النضال المفخخ.
واللافت أن المؤتمر لم يحدد سبب تدهور تعز، لم يتحدث عن المحاسبة، ولا عن الإقالة، فقط عن "الحلول المؤسسية" و"إعادة الهيكلة"، وكأن المدينة ليست على شفير الانهيار بل في ورشة تنظيم إداري.
ثم يأتي المضحك المبكي: المؤتمر يطالب بتجاوز شروط الوظيفة العامة لإيصال "الشباب" إلى المناصب! بلا مؤهلات، بلا وظائف، المهم أن يكونوا "مؤتمريين". وهذا لب الحكاية.
فالقصة كلها ليست عن الوطن، بل عن الكرسي.
وعليه لماذا يقاتل اليمني في الميدان إذا؟
ليأتي أحدهم بـ"بطاقة مشاركة" ويقفز فوق الدماء إلى وظيفة؟
أهذه هي العدالة؟
أهذا هو التغيير؟
إذا كان هذا هو التمكين، فليته لا يُمكن.
وهناك نوع آخر من المشاركين، نسميهم "كائنات المنظمات" أو "الكائنات الدولارية"، لا يتحركون إلا إذا شمّوا رائحة التمويل، ولا يبتسمون إلا إذا صُرف بدل الضيافة.
أعرف شخصا حصل على دعم سخي من مليونير أراد أن يخدم الشباب، فقام "المؤتمري الأمين" بلحس نصف المبلغ قبل أن تُرفع الستارة.
ثم خرج أمام الكاميرا يتحدث عن الشفافية والتنمية المستدامة.
هؤلاء لا يخططون لمستقبل تعز، بل لمستقبل أرصدتهم البنكية.
وما المؤتمر في أعينهم إلا مزرعة فرص موسمية، تُحصد فيها الدولارات باسم شباب لم يُسألوا، ولم يُمثَّلوا، ولم يُحترموا.
أي أنهم كائنات دولارية بمؤتمر الفرصة..
بصريح العبارة، من يعاني في تعز ليس بحاجة لمؤتمر شباب، بل بحاجة لسلطة مسؤولة، وخدمات موجودة، وقانون يُطبق، وكرامة تُصان. أما مؤتمركم، فهو حفلة تنكرية في جنازة مدينة.