تجربتي كدبلوماسي يمني في زمن الانهيار والتهميش
لم أكن أتصور أن يأتي يوم يقاس فيه الانتماء الوطني بمعايير ضيقة لا علاقة لها بالكفاءة ولا بالولاء للدولة بل بالاسم والهوية الاجتماعية كنت أظن كما ظن كثيرون من أبناء جيلي أن خدمة الوطن في مواقع المسؤولية هي شرف لا تحده الاعتبارات الشخصية أو الحسابات المناطقية..
لكن الحرب حين انفجرت في اليمن لم تكن صراعا على السلطة فحسب بل صراعا على معنى الدولة ذاتها في هذا المقال أكتب لا لأدافع عن نفسي بل لأروي ما جرى لي كدبلوماسي يمني وجد نفسه فجأة خارج حسابات الدولة التي خدمها بإخلاص فقط لأنني وضعت في خانة الاشتباه بالانتماء هذه شهادتي عن زمن اختلت فيه المعايير وتغير فيه وجه اليمن الذي عرفناه..
خدمت اليمن في مسارات دبلوماسية مختلفة في الأمم المتحدة في نيويورك وفي جامعة الدول العربية في القاهرة وفي اليابان وفي لبنان وعملت سكرتيرا لوزير الخارجية الدكتور ابوبكر القربي..
ومارست مهامي في كل أعمالي بروح المسؤولية والمهنية دون أي انتماء سياسي أو حزبي ولم أكن يوما جزءا من صراع داخلي أو خارجي..
بل كنت أمثل الدولة اليمنية بكل ما تعنيه من سيادة واستقلال ومصالح عليا ومع ذلك وجدت نفسي عند اندلاع الحرب أمام واقع عبثي تحكمه الحسابات الضيقة وتمت معاملتي لا باعتباري دبلوماسيا بل باعتباري هاشميا وهي صفة اجتماعية لا علاقة لها بموقفي أو عملي أو قناعاتي..
وهي حقيقة لم تكن يوما سببا للتمييز أو الامتياز في نظري لكنها تحولت بفعل الصراع إلى تهمة وإلى ذريعة للإقصاء..
كنت قائما بالأعمال لليمن في لبنان حين تعمق الانقسام السياسي والعسكري ومع ذلك واصلت أداء واجبي المهني بكل نزاهة ولم أنخرط في أي خطاب أو تحرك يخدم طرفا دون آخر..
لكنني فوجئت بإبعادي من منصبي دون تفسير مهني أو إداري واضح وقبل ذلك كنت قد عُينت قائما بالأعمال في سفارة اليمن في واشنطن بقرار رسمي ..
غير أن الرئيس عبدربه منصور هادي أوقف القرار فجأة تحت ضغوط قيل إنها من جماعة الإخوان المسلمين وكان المبرر الوحيد أنني هاشمي وهو ما شكّل صدمة شخصية ومؤسسية لأن الكفاءة والنزاهة لم تعودا كافيتين للبقاء في خدمة الدولة..
ما حدث لي ليس سوى انعكاس مباشر لحالة التدهور العام التي وصلت إليها الدولة اليمنية في ظل الحرب صراع أطاح بكل القيم المؤسسية وأحل محلها منطق الولاءات الضيقة والانتماءات المتنازعة وغاب المشروع الوطني الجامع..
وصارت الدولة نفسها أداة للصراع لا طرفا محايدا فيه وتم تهميش الكثير من الكفاءات الوطنية لمجرد أنهم لا ينتمون إلى هذا الطرف أو ذاك أو لأن أسماءهم وأسرهم تم تحميلها دلالات سياسية أو طائفية لا تعنيهم ولا يعبرون عنها..
خرجت من اليمن لا لأنني رفضت الدولة بل لأن الدولة نفسها لم تعد تحتمل من لا يتماهى مع معسكر من معسكرات الحرب..
فضلت البقاء على مسافة من الصراع لأنني لم أر فيه مشروعا وطنيا وإنما سباقا على النفوذ والسلطة والموارد ولم أر في شعاراته إلا غطاء لتصفية حسابات سياسية وشخصية على حساب الوطن والمواطن..
وما زلت أؤمن أن اليمن يمكن أن ينهض من جديد لكن بشرط واحد أن نعيد الاعتبار لفكرة الدولة كإطار جامع يحتكم فيه الجميع للقانون وتتساوى فيه الحقوق والفرص بعيدا عن الانتماءات الضيقة..
لم تكن قصتي استثناء في زمن الانهيار بل واحدة من مئات وربما آلاف القصص التي ضاعت فيها الحدود بين الخدمة والخذلان بين الهوية والمواطنة بين الولاء للدولة والانتماء القبلي أو المذهبي أو السياسي ..
ما تعرضت له لم يفقدني إيماني باليمن لكنه جعلني أرى بوضوح حجم الجرح الذي أصاب فكرة الدولة فينا وكيف تحولت الكفاءة إلى تهمة والاسم إلى عبء والانتماء الوطني إلى وجهة نظر ..
لم أكتب هذه السطور بدافع شخصي بل من باب الإيمان بأن الشهادة الصادقة جزء من مسؤوليتنا تجاه التاريخ وتجاه وطن يحتاج أن نعيد بناءه على أسس المواطنة والعدالة لا على ذاكرة التهميش والانقسام..
فاليمن لا يمكن أن يقوم من تحت الركام إلا إذا اعترف بجراحه وأنصف أبناءه وأعاد الاعتبار لفكرة الدولة التي تجمع ولا تفرق
* سفير بوزارة الخارجية