اليمن بين أطلال الدولة وأشباح السلام
في الوقت الذي تتعثر فيه جهود السلام ويغيب الحل السياسي الشامل يواصل اليمنيون دفع ثمن حربٍ طالت كل شيء وأضعفت كل معنى للسيادة والكرامة.
فمن بلدٍ كان يُشار إليه بالبنان كدولة موحدة ذات هوية واضحة، إلى وطن تتنازعه الجبهات ويغيب عنه المشروع الجامع، تتكشّف مأساة اليمن ليس فقط في أرقام الجوع والنزوح، بل في التيه الوطني وغياب البوصلة السياسية والعسكرية.
وبين مبادرات دولية خجولة وواقعٍ ميداني مشتت، يبدو أن مستقبل اليمن لا يزال حبيس التأجيل، ينتظر صحوة داخلية تسبق أي تسوية خارجية.
لم يكن اليمن قبل اندلاع الحرب في عام 2015 بلدًا مثاليًا أو خاليًا من الأزمات فقد كانت هناك اختلالات واضحة في بنية الدولة الإدارية والاقتصادية والسياسية وكان الفساد مستشريًا وتوزيع الثروة غير عادل.
لكن مع ذلك كان هناك كيان سياسي واضح المعالم دولة موحدة تحمل هوية وطنية جامعة ومؤسسات تمارس وظائفها بشكل متفاوت وجواز سفر يمني له احترام نسبي في المحافل الدولية.
وكانت الحركة الداخلية ممكنة والحياة اليومية رغم صعوبتها تحمل مقومات العيش المشترك تحت مظلة وطنية.
ليوم وبعد أكثر من عقد من الزمن على الحرب تغيرت ملامح اليمن جذريًا فالبلاد لم تعد كما كانت لا على مستوى الجغرافيا السياسية ولا على مستوى البنية المجتمعية أصبحت الخارطة اليمنية موزعة بين سلطات أمر واقع متعددة ومناطق نفوذ متنازعة تتداخل فيها الحسابات الإقليمية والدولية بشكل مباشر.
وتراجعت فكرة الدولة المركزية لصالح ترتيبات محلية ومناطقية منفصلة جعلت من المشهد الوطني فسيفساء متداخلة تعجز عن تشكيل كيان موحد .
الأزمة الإنسانية في اليمن باتت من الأسوأ عالميًا بحسب تقارير الأمم المتحدة أكثر من ثلثي السكان بحاجة إلى مساعدات إنسانية وملايين يعيشون تحت خط الفقر في ظل تدهور العملة المحلية وانهيار الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والمياه والكهرباء.
كما يعاني النازحون داخليًا من ظروف مأساوية ويعيش اليمنيون في الخارج أوضاعًا صعبة بسبب فقدان الوثائق وصعوبة الوصول إلى الخدمات القنصلية وتراجع قيمة جواز السفر اليمني الذي أصبح من بين الأضعف في العالم.
الصراع في اليمن لم يعد فقط صراعًا بين الحكومة والحوثيين بل أصبح ساحة لتقاطع مصالح إقليمية بين عدة أطراف كل منها يسعى لترسيخ نفوذه عبر أدوات محلية وتشكيلات مسلحة تسهم في تعميق حالة الانقسام وتغذية النزاعات الفرعية .
وتبدو الحلول السياسية بعيدة في ظل غياب الإرادة الحقيقية للتسوية واستمرار الرهانات العسكرية التي أثبتت فشلها في الحسم أو فرض واقع مستقر يمكن البناء عليه
رغم الجمود السياسي والتصعيد العسكري شهدت الأشهر الأخيرة تحركات دبلوماسية جديدة لإحياء مسار السلام في اليمن ففي مايو 2025 أعلنت الولايات المتحدة وقف حملتها الجوية ضد الحوثيين بعد اتفاق هدنة توسطت فيه سلطنة عمان.
حيث وافق الحوثيون على وقف الهجمات على السفن في البحر الأحمر كما أطلق الحوثيون سراح 153 محتجزًا في خطوة وُصفت بأنها لبناء الثقة في الوقت نفسه دعا الاتحاد الأوروبي إلى تجديد الزخم في جهود السلام.
مؤكدًا دعمه الكامل لوساطة الأمم المتحدة والمبادرات الإقليمية كما وصل المبعوث الأممي هانس غروندبرغ إلى صنعاء في يناير 2025 في أول زيارة له منذ عامين بهدف تهدئة التوترات وتحسين بيئة التفاوض
اليمنيون في الداخل والخارج يعيشون حالة من التيه السياسي والانكسار النفسي فلا الدولة موجودة ولا الرؤية واضحة ولا المشروع الوطني حاضر أما الخطاب العام فقد أصبح مجزأ ومشحونًا بالعصبيات المناطقية والمذهبية في حين اختفت النخب الوطنية القادرة على تقديم خطاب جامع أو خارطة طريق مقنعة للخروج من النفق.
وتراجعت مكانة اليمن عربيًا ودوليًا بسبب طول أمد الحرب وانغلاق الأفق السياسي وتضاؤل الاهتمام الدولي الفعال ما زال الأمل قائمًا في إمكانية استعادة اليمن كدولة وهوية..
ولكن ذلك يتطلب أولًا الاعتراف بأن الحرب ألحقت ضررًا بالغًا بالنسيج الوطني وأن المراهنة على الخارج لن تبني وطنًا مستقرًا..
كما يتطلب إعادة الاعتبار للهوية اليمنية الجامعة والبدء بحوار وطني حقيقي لا يستثني أحدًا ويضع مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات الأخرى..
فبدون مشروع وطني جديد ينبثق من إرادة يمنية صادقة سيظل المستقبل غامضًا وتستمر المعاناة التي أثقلت كاهل اليمنيين وأضاعت منهم ملامح الدولة والكرامة..
* سفير بوزارة الخارجية