اليمن: من جنة التاريخ إلى جحيم النسيان
"بلدةٌ طيبةٌ وربٌ غفور"
ذكرها الله في القرآن الكريم، فهل يُكذّب التاريخ وعدَ السماء؟ أم أننا الذين خُنّا أنفسنا، فسقطنا من عرش المجد إلى قاع المأساة؟
اليمن… هذا الاسم ليس مجرد جغرافيا على خارطة العالم، بل هو اختصار كثيف لتاريخ البشرية الأولى، ولبنة الحضارة منذ أن كان الإنسان يبحث عن معنى لوجوده.
اليمن ليست بلدًا فحسب، بل هي المبتدأ والمنتهى، وهي الذاكرة المبلّلة برائحة اللبان، والمضمّخة برماد القوافل، والمحروسة بأجنحة الأساطير.
هنا سكنت سبأ، وقامت معين وقتبان، فأنشأت أول ممالك الأرض. هنا عُبدت الشمس، ثم عانقت التوحيد. هنا سُطّرت أولى أبجديات السيادة، وتعلمت الأرض كيف تكون الحضارة.
في هذه الأرض نُحتت البيوت في الجبال، وارتفعت القلاع فوق السحاب، وشُيّدت السدود التي روّضت السيول، وقهرت الفصول، وشهدت الطبيعة أن الإنسان يمكنه أن يحيا، لا أن يبقى فقط.
في اليمن، لم تكن الزراعة مجرد نشاط اقتصادي، بل طقسًا من طقوس الشكر لله الخالق. كانت الجبال مدرّجات خضراء تشبه قصائد صوفية، تُرتّلها الحقول كل صباح، ويعزفها النسيم بين وديان عمران وذمار، وبين أودية إب وعدن وتعز وحضرموت.
وفي قلب هذه الأرض، حين كان العالم يغرق في الجهل والخرافة، كان اليمنيّ يكتب، يبني، ويقود القوافل نحو المشرق والمغرب.
ألم يقل النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "الإيمان يمان والحكمة يمانية"؟
تخيل أن يُختصر الإيمان كله في بلدٍ واحد، أن يُعرّف التوازن الروحي والفكري بجملة تبدأ بكلمة "اليمن".
لكن، ما الذي جرى؟
كيف انقلبت الجنة إلى جحيم؟ كيف تحوّل شعبٌ كان يُضرب به المثل في الشجاعة والكرم والحكمة، إلى شعبٍ يُضرب به السوط، ويُرمى به في الشتات؟
ما الذي جرفنا من ضوء الحضارة إلى عتمة القبور؟
هل هي لعنة الجغرافيا؟ أم خيانة الأبناء؟
هل الحضارات حين تبلغ ذروتها تنهار، لا لأن العدو أسقطها، بل لأن أبناءها نسوا من هم، واستراحوا على وسادة الغرور؟
لقد انهار سد مأرب، لا كحادثة هندسية، بل كنبوءة ثقيلة، أسقطت معها نُظمًا، وممالك، وشتّتت القوم في الأرض، فكان أول التيه.
واليوم، بعد آلاف السنين من العراقة، نجد أنفسنا محاصرين بالموت، محكومين بالخوف، محكومين بأمراء الحرب، والسلالة، والطائفة، والتبعية.
تحوّلت الأرض التي كانت "بلدةً طيبة"، إلى ساحة مقفرة:
أطفالنا يبحثون عن كسرة خبز.
أمهاتنا تلد في الخوف.
شيوخنا يموتون بين الأنقاض.
والشباب، ذلك الزهر النبيل، صاروا إما وقودًا لحروب الغير، أو أرقامًا في قوائم اللجوء.
لم تبقَ من الحضارة إلا أطلالٌ يقف عندها المتعبون، ويتساءلون: كيف؟ ولماذا؟ ومتى سقطنا؟
تبارك الله في الخَلق… ولكن ماذا فعلنا بالخُلق؟
تركنا أرضنا للجهل، واستبدلنا الحكمة بالخرافة، وورثنا كراهية المصطلحات بدلًا من حبّ الإنسان.
تمزقنا إلى قبائل، وطوائف، ومناطق، كلٌ ينهش من الآخر، حتى لم يبقَ شيء يُنهش.
اليمن لم تُهزم يومًا لأنها فقيرة، بل لأنها تخلّت عن أثمن ما تملك: عقلها.
اليمن لم تسقط يومًا لأن عدوًا غزاها، بل لأنها سمحت للعدو أن يسكن في عقول أبنائها، وضمائر نخبتها، وقلوب رجالها.
صرنا نُغني للماضي ونبكي الحاضر، وكأن الحنين يكفي لصناعة وطن!
لكن الحقيقة المرّة أن النوستالجيا، مهما كانت صادقة، لا تعيد بيتًا مهدومًا، ولا تقيم سدًّا مكسورًا، ولا تُحيي شعبًا ميت الضمير.
إن المأساة اليمنية ليست فقط مجاعة وحصارًا وانقلابًا، بل هي مأساة فلسفية عميقة:
كيف يمكن لأمة أن تسقط من علُ، دون أن تُطلق رصاصة؟
كيف يمكن لحضارة أن تنتحر، بهدوء، وبأنامل أبنائها؟
وهنا، في وسط هذا الخراب، يقف التاريخ مذهولًا، وتسأل الجغرافيا: أين أنتم يا من كنتم ملوك البر والبحر؟
أين أبناء شبام، وورثة براقش، وحرّاس قصر غمدان؟
أين الورثة الشرعيون لأول سدٍ في التاريخ؟
أين صانعو المجد الذين كانوا ينحتون الجبال، لا يختبئون فيها؟
أين العقل اليمنيّ الذي صنع المعجزة؟
لقد انهار تحت وطأة المسميات الفارغة: الزعيم، السيد، الشيخ، القائد… وكلهم مجرّد سماسرة للدم، ومتعهّدون للخراب.
اليمن لا تحتاج إلى من يرثيها، بل إلى من يقاتل من أجلها… لا بالرصاص، بل بالوعي.
نحتاج أن نعود إلى الإنسان، إلى الفكرة، إلى الرؤية الجامعة، إلى يمن بلا طائفية، بلا مناطقية، بلا استعمار داخلي أو خارجي.
نحتاج أن نعيد للطفل اليمني حُلمه، وللأم اليمنية أمانها، وللأرض صوتها.
وحتى ذلك الحين، ستبقى اليمن معجزة مؤجلة، وطنًا يُحتضر لكنه لا يموت، حضارة تنهار لكنها لا تُنسى، فكرة مُعلّقة في الوجدان، لأن من وُلد من الجنة… لا يمكن أن يموت في الجحيم.