متى يعلنون وفاة العرب؟
لطالما ظلّ هذا التساؤل يتردّد في الأذهان، بشكل يعكس مرارة الواقع ويُعيد صدى كلمات الشاعر الكبير نزار قباني. ولو كان نزار حيًّا بيننا اليوم، لأعلنها صراحةً، بلا تراجع ولا تردّد: "موت العرب". كيف لا، وأطفال غزة يُقتلون على مرأى ومسمع العالم، فيما تشارك دول عربية في حصار أكثر من مليوني فلسطيني في رقعة صغيرة وُصفت بأنها "أكبر سجن مفتوح في العالم"؟
حتى تلك الأنظمة العربية التي حاولت أن تضفي شرعية على حكمها من خلال رفع العلم الفلسطيني في حملاتها الانتخابية والمُتاجرة بشعارات القضيّة،
تبيّن لاحقاً أنّها بالذات هي التي تعتقل مواطنيها الذين يتظاهرون في الساحات، مندّدين بتخاذل حكوماتهم تجاه أكبر قضايا الأمّة.
بل وتُسخّر أبواقا إعلامية ودينية من أجل الطعن في المقاومة وتثبيط عزائم الشعوب العربية وقتل أيّ إرادة للتحرّر والانعتاق لديها.
لقد قيل قديماً، وما زال يُتداول، أنّ العرب لا يملكون إلا الشعارات والعنتريات الفارغة في تعاطيهم مع القضية الفلسطينية.
ولكن تبيّن الآن أنه تمّ التخلّي عن تلك الشعارات أيضاً، فأصبحنا مجرّدين من الأفعال وحتى الشعارات التي لطالما كانت محلّ تندّر واستهزاء، سواء من الخارج أم من الداخل.
تمّ التنكّر لجميع لاءات الخرطوم الثلاث: لا سلام، لا تفاوض، لا اعتراف. بل أصبح السعي لمحاولة تصفية القضية هو الغالب.
وفي هذا الصدد، يقول الكاتب يحيى أبو زكريا: "الواقع العربي يتجه للهاوية بشكل متسارع لم يسبق إليه في أي مرحلة تاريخية، حتى في تلكم المراحل التي كان فيها العرب ضعفاء، أما اليوم فيتجه العرب والمسلمون إلى الاختفاء".
وهذا ليس غريباً بعدما تساقطت قلاع المقاومة والعروبة الواحدة تلو الأخرى، وتحوّلت ما يسمّى بـ "دول الطوق" سابقاً من تطويق إسرائيل إلى دول تُطوِّق المقاومة.
وتتجلّى المفارقة في صورتها الكبرى في خلاء ساحات الجامعات العربية من أيّ تحرّك أكاديمي أو طلابي مُناصر للقضية، خاصة إذا ما قارناه بنظيره في الجامعات الغربية وما تبع ذلك من ضغوطات إدارة ترامب على الجامعات الأميركية بما فيها جامعة هارفارد من أجل كبح جماح طلابها المناصرين للحقّ الفلسطيني.
بل ويتساءل الشارع العربي: لماذا تقوم دول في أميركا اللاتينية مثلًا، والتي تفصلها عنا آلاف الكيلومترات بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان على الرغم من عدم وجود أيّ دم أو دين أو لغة تجمعها بنا، بينما تستمر الحكومات العربية، خاصّة تلك المطبّعة، في علاقاتها مع الاحتلال، رغم خرق الأخير لاتفاقية كامب ديفيد، مثلًا، مع مصر؟
لا يملك العرب إلا الشعارات والعنتريات الفارغة في تعاطيهم مع القضية الفلسطينية
فلم يعد بإمكاننا رسم بلاد العرب ولو بالمجاز، وتُكسر القصائد إن كُتبت عن المقاومة. وحين أفاق نزار من حلمه، اكتشف هشاشته: "فلا قمرٌ في سماء أريحا/ ولا سمكٌ في مياه الفرات/ ولا قهوةٌ في عدن". بل ويتابع قائلا في قصيدته:
"أنا منذ خمسين عاماً أراقب حال العرب/ وهم يرعدون، ولا يمطرون/ وهم يدخلون الحروب، ولا يخرجون/ وهم يعلكون جلود البلاغة علكاً ولا يهضمون/
وحين انتهى الرسم، ساءلت نفسي: إذا أعلنوا ذات يومٍ وفاة العرب/ ففي أي مقبرةٍ يدفنون؟ /ومن سوف يبكي عليهم؟/ وليس لديهم بناتٌ/ وليس لديهم بنون/ وليس هنالك حزنٌ، وليس هنالك من يحزنون!!/ رأيت العروبة معروضةً في مزاد الأثاث القديم/ ولكنني/ ما رأيت العرب".
فأيُّ حياة للعرب بعد تدمير بغداد ودمشق وطرابلس والتآمر على لبنان واليمن؟
إننا أمام وطن عربي ممزّق، مقطوع الأوصال، تطغى فيه روح القبلية والمليشيات، ولا صوت يعلو فوق صوت السلاح. وطن تنخره الطائفية في كلّ مكان.
وإجابةً على تساؤلات قباني، يمكن أن نقول إنّ العرب ببساطة نائمون، يصومون ويحتفلون، والفلسطينيون يُذبحون ويُبادون من دون انقطاع على مدار سنوات،
بينما نجد التدخل العربي السريع تحت ما يسمّى "الجهاد" في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا وتدخلهم العسكري في اليمن، بل وفتاوى شيوخ البلاط التي حرّضت الشباب على تفجير الدول العربية وإشعال شرارات الحروب الأهلية التي يعاني منها الوطن العربي بينما نجدهم يصفون المقاومة "بالخوارج"!
وهنا نستحضر قول هواري بومدين: "من يرد الثروة فليترك الثورة".
ويبدو أنّ هذا القول قد أصبح دستوراً لبعض الأنظمة العربية. فهل أصبحت الثروة أهم من كرامة الأمة ووحدتها؟
وهل تخلّت هذه الأنظمة عن مسؤولياتها تجاه شعوبها وقضاياها المصيرية؟
إنّ ما نراه اليوم هو سقوط متوالٍ للقلاع العربية، ليس فقط في الجغرافيا، بل في الروح والوجدان. إنَّ العروبة التي كانت يوماً مشروعاً حضارياً جامعاً، أصبحت اليوم مجرّد ذكرى، أو ربّما عبئاً يتخلّص منه البعض بشتى الطرق.
لقد وصل بنا الحال إلى درجة لا يمكن معها تصوّر مستقبل عربي مشرق، ما لم يحدث تحوّل جذري في الوعي والممارسة، تحوّل يعيد الاعتبار للإنسان العربي، ولقيمه، ولقضاياه، ويرفض التبعية والتقسيم والتشرذم، ويُعلي راية الوحدة، والمقاومة، ومواجهة الاستكبار والظلم.
إنَّ تساؤل نزار قباني ليس مجرّد سؤال عن الموت بمعناه المادي، بل هو سؤال عن موت الروح العربية الإسلامية، موت الضمير العربي، موت الإرادة. والسؤال اليوم: ليس متى يعلنون وفاة العرب لأن الوفاة أصبحت مؤكّدة،
بل: متى يتم إعلان ميلاد العرب من جديد؟ فهل من صحوة قادمة؟
أم أنّنا سنظلّ نراقب العروبة معروضةً في مزاد الأثاث القديم، من دون أن نرى العرب؟
حماس سعيد عبدلي
باحثة تونسية في العلوم القانونية والسياسية.