الإنسان ابن بيئته: صدى الواقع وعنوان المصير
إنها حقيقة كونية راسخة، وفلسفة وجودية لا مفر منها: الإنسان ابن بيئته.
هذه المقولة ليست مجرد عبارة عابرة، بل هي جوهر فهمنا لتشكل الفرد والمجتمع، وإدراكنا لتأثير المحيط على كل تفاصيل الكيان البشري، من الفكر والعلم إلى المهنة والقيم.
إننا نُسقى من معين البيئة التي ننشأ فيها، نتنفس هواءها، ونستمد منها ملامح وجودنا.
البيئة صانعة الفرد والمجتمع
عندما يفتح المرء عينيه على مجتمع يرفل في ثوب الوعي والتعلم، أو يزخر بالحرف والصناعات، فإنه يصبح جزءًا لا يتجزأ من هذه المنظومة.
تتسلل إليه العادات والتقاليد، تتجذر فيه الأخلاق والقيم، ويتشكل وعيه وفقًا لهيكل مجتمعه، بما فيه العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وكما قيل في الأثر: "كما تكونوا يولى عليكم"، و"الناس على دين ملوكهم".
هذه الفلسفة ليست ترفًا فكريًا، بل هي ركيزة أساسية في فهم كيف تتشكل المجتمعات وتتغير، وكيف يمكن للسلطة أن تكون محركًا أساسيًا للنهضة أو للجمود.
دعنا نمعن النظر في بلادنا اليمن، حيث تتجلى هذه الحقيقة بأبهى صورها وأشد تناقضاتها.
نرى الفروقات الشاسعة بين منطقة وأخرى، وكأن كل بقعة جغرافية تحكي قصة حياة مختلفة.
ففي حين تزخر بعض المناطق بالأطباء والمهندسين، وتتجسد فيها معاني الرفاهية والرخاء، نجد أخرى تعيش في قفار الجهل والفقر، حيث بيوت الطين والخيام هي الملاذ. قرى بأكملها تُعرف بمهنة معينة:
هنا تجد النجارين، وهناك الحدادين، وهؤلاء السباكين، وأولئك الخياطين، وتلك القرى تعيش على الاصطياد، وأخرى تعتمد على زراعة القات أو تجارته.
هذه التخصصات ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج تراكم معرفي ومهني توارثته الأجيال، وسببه الرئيس هو البيئة المحيطة، بما فيها فرص العمل المتاحة وأنماط الحياة السائدة.
تأثير الهجرة وتشكيل المجتمعات المهنية
وليس هذا فحسب، بل إن حتى ظاهرة الاغتراب تلعب دورًا محوريًا في تشكيل المهن والمهارات. عندما يبدأ شخص من منطقة معينة رحلته في الغربة، تتغير حياته وتتفتح مداركه.
يصبح هو الشرارة الأولى التي تنير طريقًا جديدًا لأبناء مجتمعه. تبدأ خيوط التواصل والتعاون بين المغتربين وأهلهم، وعندما يتبعونهم إلى المهجر، فإنهم لا يختارون أماكن غريبة عليهم، بل يلتحقون بأبناء بلدهم الذين سبقوهم.
هنا، تتشكل النواة الأولى لمجموعات مهنية متكاملة، حيث ينخرط الوافدون الجدد في نفس الأعمال التي بدأها رفاقهم، وهكذا تتوالى الأفواج، وتتأثر كل مجموعة بأفرادها،
لتُصبح قرية بأكملها متخصصة في النجارة، وأخرى في السباكة، وثالثة في الكهرباء، ورابعة في الخياطة، وخامسة في تجارة الملابس، وسادسة في تجارة العطور، وهكذا دواليك. هذه هي تجليات "الإنسان ابن بيئته" في أبهى صورها العملية.
دور القيادة الواعية في تشكيل الوعي المجتمعي
وإذا قسنا هذا المفهوم على مستوى الدول، نجد أن الفروق في العقليات والثقافات بين الأمريكي والألماني والياباني والعربي ليست مجرد اختلافات سطحية، بل هي نتاج تراكم حضاري وبيئي عميق.
وما نراه في اليمن اليوم من انتشار السلاح والجهل والصرخات المتناحرة – سواء كانت من الحوثي أو الانتقالي أو القاعدة – أو الاختلاف في الفن والموسيقى، من سيمفونيات ومسارح إلى "شيلات" صاخبة من على متن "الشاصات" (السيارات اليابانية ذات الحوض)،
كل ذلك يعكس بيئة ثقافية واجتماعية معقدة، تشكلت بفعل عوامل تاريخية وسياسية وبيئية متشابكة.
هنا يبرز الدور المحوري للقيادة والسلطة.
فإذا ما وجدت قيادة أمينة، صادقة، ومخلصة، وتوفرت لها أسباب القوة العسكرية والمادية والتعليمية، فإنها تستطيع أن تلعب دورًا عظيمًا في تغيير نمط حياة الناس ووعيهم.
فالإرادة الصادقة والوعي بأهمية التغيير، مدعومة بقوة التنفيذ، يمكن أن تحول مجتمعات بأكملها من الفقر إلى الغنى، ومن الجهل إلى العلم، ومن الفوضى إلى النظام.
القيادة الواعية هي المهندس الذي يعيد رسم ملامح البيئة، فتتغير معها ملامح الإنسان.
إنها القدرة على غرس بذور العلم والوعي، وتوفير فرص العمل، وتوجيه الطاقات نحو البناء والإعمار.
ختامًا، إن مقولة "الإنسان ابن بيئته" ليست مجرد وصف للحال، بل هي دعوة للتفكير العميق في كيفية بناء بيئات تحتضن الوعي، وتلهم الطموح، وتصنع الفرد الصالح والمجتمع المزدهر.
إنها دعوة للقيادات لأن تدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها في تشكيل مصير الأجيال، وللأفراد لأن يعوا أنهم ليسوا مجرد نتاج لبيئتهم، بل هم أيضًا صانعون لمستقبلها.