فلسفة الواقع اليمني: تمزق النسيج وتدافع المصالح
الحديث عن فلسفة الواقع اليمني ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو غوص عميق في بنية مجتمع متشابك، مزقته عوامل عدة، وحولته إلى فسيفساء من التناقضات.
إن اليمن، بمكوناته المتنوعة، من شماله إلى جنوبه، ومن شافعيته إلى زيديته، ومن صوفيته إلى تعدديته، يحمل في طينته بذور التميز والفرادة، ولكنه يحمل أيضاً بذور التفكك والانشطار.
لطالما كانت اليمن ميداناً لتجاور واختلاط فريد بين المذاهب والأنساب والمناطق.
لكن هذا التنوع، الذي كان يمكن أن يكون مصدر قوة وإثراء، تحول إلى عامل تمزيق بفعل تحولاته إلى اصطفافات حادة. فالهوية المذهبية، سواء كانت شافعية أو زيدية، لا تزال ترسم حدوداً اجتماعية وسياسية.
وكذلك الحال مع التمايزات الجغرافية بين الشمال والجنوب، التي غالباً ما تتجاوز مجرد التقسيم الإداري لتصبح انعكاساً لتاريخ طويل من الاختلافات في الثقافة والتركيبة الاجتماعية.
أما الطبقية، فهي نصل آخر طعن في جسد المجتمع اليمني. فالانقسامات بين "السادة" و"القبائل" و"المهمشين" ليست مجرد تمايزات اجتماعية، بل هي جدران سميكة من الحرمان والإقصاء.
هذه الفوارق لا تولد فقط شعوراً بالظلم، بل تتحول إلى بيئة خصبة لليأس، حيث يجد المهضومون والمهمشون أنفسهم وقوداً لأي تنظيم يحمل أجندات سياسية أو دينية.
يصبح هذا التدافع، في جوهره، فعلاً بدافع الانتقام من الوطن والشعب؛ ليس بدافع كراهية، بل بدافع البحث عن الخلاص من عبء الإذلال الاجتماعي وعقدة النقص التي فرضت عليهم.
ومن البديهي أن يتعلق المظلوم بأي قشة، طالما يجد فيها بارقة أمل للتحرر من قيود التنمّر المجتمعي والاضطهاد المستمر.
إن غياب العدالة والمساواة هو الشرخ الأعظم الذي يقود إلى الفوضى. فبقدر ما يتسع هذا الشرخ، يتآكل النسيج الاجتماعي، وتتلاشى الروابط الوطنية، ليحل محلها الولاءات الضيقة والانتماءات الفرعية.
وما نراه اليوم في اليمن من صراعات وتناحر، ليس إلا تجسيداً لهذه الفلسفة المريرة: فلسفة مجتمع مزقته عوامل داخلية، ودفعت أطرافه نحو تدافع لا يهدف بالضرورة إلى بناء، بقدر ما يهدف إلى التحرر من قحط الحرمان.
هذا الواقع لا يقود إلا إلى فوضى خلاقة لا يُحمد عقباها، حيث تتقاطع الأجندات وتتصارع المصالح، ويبقى الثمن الأكبر يدفعه المواطن اليمني، الذي بات رهينة لتاريخه المعقد واختلالاته الهيكلية العميقة.
إن فهم هذه الفلسفة يتطلب منا رؤية أبعد من مجرد الصراعات الظاهرة، والتعمق في الجذور الاجتماعية والنفسية التي تحرك الأفراد والمكونات.
فعندما تنعدم سبل الإنصاف وتغلق أبواب الفرص أمام فئات واسعة من الشعب، فإن ذلك يولد قنابل موقوتة، قابلة للانفجار في أي لحظة، لتتحول المطالب المشروعة إلى تدمير ذاتي شامل.