الكهانة وتدجين العقل: الحوثي نموذجًا
منذ فجر الحضارات، شهدت المعابد نشأة طبقة اتخذت من الدين مهنة وسلطة.
في مصر القديمة، لم يكن الكاهن مجرد وسيط بين البشر والآلهة، بل كان صانعًا للآلهة نفسها، يلبسها ثوب القداسة، ويتحكم في مصائر الناس باسمها.
لقد كانت الحجارة والأصنام والأبقار المقدسة مجرد واجهة، يخفي وراءها الكهنة سلطتهم الحقيقية.
كانوا يأكلون باسم الآلهة التي لا تأكل، ويُثَرون باسمها التي لا تحتاج، ويُخدرون العقول بوعود زائفة بالبركة والرضا الإلهي.
لم يكن كهنة عشتار في بابل مختلفين، فقد أدركوا أن ظهور نبي يوحد الإله ويُبطل تعدد الآلهة سيفكك نسيج سلطتهم.
ولما جاء إبراهيم برسالة التوحيد، لم يجدوا وسيلة للتصدي له سوى بالقوة والبطش.
فكانت النار التي أوقدوها له رمزًا لحقدهم على كل من يهدد امتيازاتهم. إنها ذات الفكرة التي تتكرر:
إقصاء الحق بالسلاح، وتكميم الأفواه بالنار، لأن الحقيقة كالشمس لا تخفى إلا بستر زائف.
وفي مكة، قبل الإسلام، كانت الكعبة محاطة بأصنام جعلها كهنتها مصدراً للثروة والسلطة.
عندما جاء النبي محمد عليه الصلاة والسلام برسالة التوحيد، لم يكن كهنة قريش يدافعون عن دين، بل عن سلطة قائمة على استغلال البسطاء.
كانت كل صرخة "لا إله إلا الله" تعني أن عرشهم يهتز، وأن سلطانهم المادي سيزول.
لذا، لم يكن غريباً أن يواجهوا الدعوة الجديدة بالاستهزاء والتعذيب والحروب، لأنهم يعلمون أن قيام دولة جديدة مبنية على العدل والمساواة يعني نهاية عصر الامتيازات القائم على الوهم.
من كهانة الماضي إلى كهانة اليوم: الخمس والولاية وتاريخ الخداع
لا ينتهي تاريخ الكهانة بانتهاء العصور القديمة، بل يتجدد بأساليب مختلفة. في كل زمان ومكان، تظهر جماعات تتخذ من الدين ستارًا، وتدعي لنفسها قداسة مزيفة، لتمارس نفس الأدوار القديمة.
اليوم، نرى هذا النمط يتكرر في اليمن، حيث تظهر جماعة تدعي أنها سلالة نقية، وأن لها الحق في الحكم والخمس والولاية على الناس. إنهم يحيون فكرة الكهانة القديمة، لكن بصبغة جديدة.
يدَّعون أنهم ورثة التاريخ، بينما هم عبيد له، يستنسخون أسوأ صفحاته. يدَّعون الولاية، بينما هم ينهبون الأرزاق، ويخدرون العقول، ويُذلون النفوس باسمها.
إن الخمس الذي يفرضونه ليس إلا نسخة جديدة من "عطايا الآلهة" التي كان يجمعها كهنة الماضي، لكنه اليوم يُجمع باسم سلالة تدعي لنفسها العصمة والنقاء، بينما تاريخها لا يروي سوى قصص التيه والضياع.
هؤلاء الذين يصفون أبناء اليمن الأصليين بأنهم "زنابيل"، يتناسون أن هذه الأرض هي التي آوتهم، وأطعمتهم، وكسَتْهم عندما كانوا تائهين.
لقد انقلبوا على كرم أهلها، وردوا الجميل بالجحود، والضيافة بالاستغلال، والوحدة بالتفرقة. إنهم لا يختلفون في جوهرهم عن كهنة عشتار وقريش،
فالهدف واحد: السلطة، والمال، والامتيازات، والوسيلة واحدة: خداع الناس باسم الدين.
إن التحدي اليوم ليس في كشف زيف صنم حجري، بل في فضح كهانة تتوارى خلف شعارات دينية زائفة.
إنها دعوة لإعادة الاعتبار للعقل، وللإيمان الحقيقي الذي لا يقبل الوساطة بين الإنسان وربه، ولا يمنح لسلالة دون أخرى حقًا في حكم الناس واستغلالهم.
إنها دعوة للتحرر من عبادة السُلالة، كما تحررت البشرية من عبادة الحجر.