"حين ينام الوعي وتستيقظ العبودية"
تُصاب الأمم أحيانًا بمرضٍ خفيٍّ أشد فتكًا من الحروب والمجاعات، اسمه النسيان الجمعي. حين ينسى الشعب تاريخه، ينسى أيضًا كيف يُدافع عن نفسه، وكيف يفرّق بين الحاكم والمستعمر، وبين الدين الذي يُحرِّر والدين الذي يُستعمَر به.
إنها لحظة الغفلة الكبرى، حين تتحول الذاكرة إلى رماد، ويغدو الوعي غائبًا تحت ركام الشعارات والقداسة المصطنعة.
لقد كان اليمن، منذ فجر التاريخ، أرض الفاتحين، ومنطلق الحضارات، ومصدر النور للعقول والأمم.
لكن مأساة هذا الشعب بدأت يوم تسلّل الكهنوت متوشحًا بعباءة الدين، يوم أُدخلت الفكرة الهادوية على أنها خلاصٌ سماوي، بينما كانت خديعة فارسية بثوبٍ ديني، أُحكم نسجها على مدى قرون لتكبيل شعبٍ حرٍّ بأغلال القداسة.
لم يكن عبدالله بن حمزة سوى مثالٍ صارخ على هذا الاستبداد المغلف بالإيمان؛ فقد سفك الدماء ودمّر القرى اليمنية ليُخضعها لسلطته، متذرعًا بأنه “إمام الهدى”.
وكذلك آل شرف الدين الذين تابعوا النهج ذاته، إذ رأوا في اليمنيين رعايا لا شركاء، وفي الأرض إرثًا لا وطنًا. ثم جاء اليوم من سار على نهجهم،
فكانت الكارثة تتكرر بثوبٍ جديد اسمه الحوثي؛ مشروعٌ طائفيٌّ مغلق، يتغذى من تاريخ الكهنوت ذاته، ويعيد إنتاج العبودية باسم الدين.
ذلك هو وجه الاستعمار المقنّع، حين لا تحتاج الجيوش إلى بنادق ما دامت العقائد تُسيّر العقول. فالدين، حين يُوظَّف لإخضاع الناس، يصبح أفيونًا لا وحيًا، وأداة تجهيل لا هداية.
نحن مع الدين الحق، مع الرسالة التي تدعو إلى الحرية والعقل، لا مع الطغاة الذين جعلوا من الدين سلطةً تُكمم الأفواه وتكبل الأجيال.
إن أخطر ما يصيب الأمم ليس الاحتلال المسلح، بل الاستسلام الهادئ، حين يعتاد الناس الذل ويتغافلون عن جرائم النخب الحاكمة، سواء كانت ملوكًا أم رؤساء أم قادة دينيين.
حينها يتحول الصمت إلى تواطؤ، والتساهل إلى شراكة في الجريمة. فكل أمة تنسى قاتلها، تُعِدُّ له مقعدًا في الغد.
اليمن اليوم يدفع ثمن قرونٍ من الغفلة، لأن الشعب لم يُدرك بعد أن الحرية لا تُستجدى من سلالةٍ ولا تُوهب من إمام، بل تُنتزع بالعقل أولًا، وبالإرادة ثانيًا. فمن لا يُراجع تاريخه، يُعاد عليه، ومن لا يملك ذاكرته، لا يملك مستقبله.
لقد آن أوان الوعي، أن يستيقظ هذا الشعب من سباته، أن يفهم أن الدين لا يطلب الخضوع، بل يُحرِّر من كل قيد. وأن يُدرك أن النسيان الجمعي أخطر من الرصاص، وأن أول خطوة نحو النهضة هي أن نتذكر، ونفكر، ونكسر دائرة الصمت.