حين ينهض الصمت كجثةٍ من رماد
في لحظةٍ قاتمةٍ من تاريخ الأمم، يتبدّل الوعي إلى عادةٍ، والعقل إلى سلعةٍ تُباع لأقوى من يملك صوتًا مزوَّرًا ووصيةً مُقدَّسة.
ذلك ليس مجرد غيابٍ للذاكرة، بل سرايةُ موتٍ بطيءٍ ينساب في العروق: نسيانٌ لا يُمحى بفقدان السنين، بل يُصاغ بصمتٍ يوميٍّ وابتداعٍ منظّمٍ للأوهام.
الأمة التي تُعوِّل على ذاكرةٍ هزيلةٍ وتستبدل سؤالها عن الحق بالحمد للباطل، قد قرأت حكمتها الأخيرة قبل أن تُعلن موتها رسمياً.
الاستبداد لا يكتفي بقبضةٍ حديديةٍ على الرقاب؛ هو أذكى من ذلك: يصنع طقوس الطاعة، يلبسها لباسَ التقديس، ويحوّل الخنوع إلى عبادة.
حين تُغدَقُ الكلمات على المُتمدِّدين على أرديتهم، وتتحوّل المساجد والبيوت وفضاءات الفكر إلى مرايا تُعيد صورة الزعيم دون أن تعكس حقيقة الدم، يكون الاستبداد قد حقّق ذاته.
هذه ليست قوة السيف فحسب، بل حكمٌ للظلال: احتلالٌ يصير شاملاً متى صار الدين سرابًا يُستعمل كغطاء للنهب والقتل.
لكن الأسوأ أن تأتي الطعنة من الذين وُهبت لهم الأقلام والمعرفة. المثقف، ذاك الكائن الذي يفترض أن يكون ضمير الأمة وضماد جراحها، ينقلب إلى مرآةٍ مصنوعةٍ لتعكس سُمعة الجلاد.
هنا في تعز وعدن — كما في غيرهما من مدننا المحترقة — رأينا كيف صارت أقلامٌ منقادةً لتمجيد الغياب، وصار من يُسمّون مفكرين وأدباء وكلاءً عن فراغٍ ينهش أصل الكلمة.
حين يصبح المثقف أراجوزًا، والكاتب شاهد زورٍ، يفقد المجتمع آخر حصونه أمام دجّالٍ يبتلع التاريخ باسم التصحيح.
ما الذي يحوّل مثقَّفًا إلى بائعِ مبررات؟ أين يختفي ضميرٌ قرأ وعلّم وكوَّن ذائقته؟
الجواب مرير: المكاسب الصغيرة، الخوف من فقدان المأوى، رخصةُ الوجاهة، ومن ثمّ رغبةٌ في التماهي مع السلطان، بل رغبةٌ في أن يكون جزءًا من سلطةٍ تباركه؛ فتتحول الكلمة إلى عملةٍ يريدها الجميع لشراء مكانٍ في قصورٍ متهالكة.
ليس هنا فضيحة أخلاقية فحسب، بل جريمة حضارية: أن تُسلَّم مفاتيح العقل إلى من لا يعرفون القراءة الحقيقيّة.
القتل الحقيقي يبدأ حين يصبح القلم محتفظًا بصداقاته مع الجلادين.
وهنا تقع الجريمة الكبرى: أن تُقنع المثقّف نفسه أنه "واقعي" إذا رضخ، وأن "الصبر" فضيلة إذا اعترف بالذل. لكن الواقعية الحقيقية ليست في دروب التسوية مع الظلم، بل في الجرأة على اسم الأشياء، في العودة إلى الالتزام بالمبدأ قبل التماهي بالمكسب.
المثقّف الذي يساوم على مبادئه هو أكثر خطورة من جلادٍ يعلن عن بطشه؛ لأن جلّاده صريح، أما هذا فيبيت ليلاً ويصحو صباحًا لينسج خيوطًا لطاعةٍ أكثر خديعة.
ولسنا نتحدث عن مجرد اختلافاتٍ سياسية؛ الفاجعة أن تتحول المساحات الثقافية إلى مصانعٍ لإنتاج الخنوع. كتاباتٌ تلمع كأزياءٍ براقةٍ، لكنها خاوية من عطر الفكر؛ محاضراتٌ تنطق بكلماتٍ رنانةٍ لا تلهب فكر المستمع؛ نقاشاتٌ تُدار في فضاءاتٍ مسكونةٍ بخوفٍ من السؤال.
وفي تعز وعدن، اللتان عرفتا تاريخًا من وعيٍ ونضالٍ، صار المشهد مثالًا على تضاؤل الشجاعة: قاماتٌ كانت تُفترض أن تكون منارات، صارت سماسرة مشاعر، يبيعون هوية القارئ بأثمانٍ زهيدة.
وهنا ندرك سر التحوّل: الجهل لا ينتصر فقط بالقمع، بل بالتحالف مع من يجب أن يكون حصنه.
إذا أردنا أن نعيد الحياة لضمائرنا، علينا أن نعيد تعريف المثقّف: ليس كمجمّلٍ للمنصب أو وسيطٍ بين الحاكم والمحكوم، بل كفعلِ تمردٍ يومي، كمنارةٍ تشتعل حتى إذا أحرقها السجان، تُنير طريق الغد.
المثقف الحقيقي هو من يزرع سؤالاً ولو غداً جاء الردّ ممزقًا؛ لأنه أيقن أن السؤال شفاءٌ وأن السكوت مرض.
أما المواطن، فواجبه لا يقلّ شدة: أن يرفض تحييد ذاكرته، وأن يطالب بحقه في التاريخ، بل أن يسأل عن مصيره كما يسأل عن خبزه.
لا حرية تُهدي ولا ذاكرة تُمنح، الحرية تُنتزع بالوعي وصراع الأذهان. نريد مقاومةً لا تقتصر على الشوارع وحدها، بل تبدأ في الكتب والمقاهي والصفحات والبيوت:
أن نعلّم أولادنا أن يفكّروا لا أن يطيعوا، أن نُعلّمهم أن يسألوا "لماذا؟" قبل أن يستمروا في طقوسهم اليومية.
لن يفعلها القلم وحده، ولا الشموع، ولا الشعارات. ستفعلها سلسلةٌ من لحظاتٍ صغيرةٍ: معلمٌ يرفض أن يُسوِّغ الظلم، شاعرٌ يكتب قصيدةً لا تُباع، قارئٌ لا يتنازل عن نقده، أمٌّ تغرس في طفلها حب السؤال.
من هذه الشرارة الصغيرة يولد فجرٌ لا يخاف الظلال. من هنا يبدأ قرار الأمة أن تُعيد لنفسها شكلها الحقيقي.
في النهاية، لا نريد مجرد استيقاظٍ بل ثورةِ وعيٍ لا تُقاس بعدد القتلى أو بطول الشعارات. نحن بحاجةٍ إلى أن نُعيد للمثقف كرسيه المحترم، لا ليتسلم منحةً أو منصبًا، بل ليعيد للضميرِ حقّه.
فنحن إن لم نُقِمْ العدالة في سماء الأفكار، فلن يُقام غيرها على الأرض. وهذه معركةٌ لن تنتهي إلا حين يدرك كل إنسانٍ أن صمته اليوم هو شهادة في محكمة الزمن، وأن قلمه غدًا سيُسأل عن كل كلمةٍ لم يكتبها دفاعًا عن الحقيقة.