بيادق فوق رقعة اليمن: لعبة الترف والخراب
في أرضٍ لم تعرف إلا أنينَ الدهر وغدرَ القدر، في يمنٍ أصبح جرحُه أزلياً وليلُه سرمَدياً؛ هنا، حيث لا تُسمع إلا همهماتُ الوجع ونداءاتُ الفجِع.
لم تعد الحرب في هذا الوطن مجرد صراع دمويٌ، بل تحوّلت إلى فلسفة سوداء تسكن كلَّ نَفَس، وتطبعُ على الجبين سِمةَ العبث، وتُفقدُ الحياةَ معناها النبيل وغايتها الأصيلة.
إنها بنيةٌ ذهنيةٌ قاسية ونسقٌ وجوديٌ غاشم، يفرض منطقه على الوعيِ المشتَّت وعلى الإنسانِ الذي يتضور تحت سماء لا تعرف الرحمة.
لكن حين ننظر بعين الفلسفة الثاقبة إلى المشهد اليمني الدامي، ندرك أن لُبّ المأساة لا يكمن في صوت الرصاص المدوي، بل في ذهنية التحوّل التي جعلت من القادة بيادق صماء تتحرك بإشارة خفية، وتستمد قيمتها من حاجة الغير إليها لا من مشروع وطني ينتمي إليه.
هؤلاء جميعًا—مهما تعددت شعاراتهم أو تنوعت عباءاتهم—هم بيادق مهيأة قبل أن يكونوا قادة أصيلين؛ إنهم قطعٌ تتحرك فوق رقعة ليست لهم ولا لوطنهم،
وتُستخدم لتحقيق أهداف ليست من صميم اليمن، وتُستبدل حين تنتهي صلاحية الدور، كما تُستبدل قطعة شطرنج انتهى وقتها أو فُقد نفعها.
وفي الوقت الذي يعيش فيه هؤلاء حياة الملوك الفارهة—في مدرعات مصفحة وجيوش من الحراسة، مع جبايات تتدفق ومنازل لا يمسها حر الشمس—يعيش الشعب في الجانب الآخر؛ جانب الألم الساكن الذي لا يحتاج إلى تفسير أو بيان واضح.
وقبل يومين فقط، وأنا أمسك الهاتف بيدي وأقلب مقاطع اليوتيوب وأغوص في بحرها، رأيتُ مقطعاً لرجل يمني مسن كسير الحال. لم يكن يقف أمام منصة خطاب، ولا يهتف لشعار باهت، ولا يتحدث عن ولاءات سياسية عرجاء.
كان نائمًا على الأرض، الأرض نفسها فراشه، يفترش كراتين بالية، ويلتحف سماءً لا تعرف الرحمة ولا تأتيه بالدفء. سأله أحد المارّة عن حاله، فتكلم بصوت خافت يذيب الحجارة قبل أن يلين القلوب:
قال إنه لا يملك عملًا يرتجيه، ولا يجد قوت يومه. قال إنه اشتاق لرؤيتهم... لكن الشوق يحتاج مالًا يدفعه، وهو لا يملك ما يشتري به حتى كسرة رغيف الخبز.
ما أقسى أن تكون مغترباً وأنت في وطنك، وأن تفصلك بعض كيلومترات عن أسرتك فلا تستطيع أن تسافر إليهم، وأن تعيش بجوارهم فلا تستطيع أن تواصل الحياة معهم؛ بل ستتركهم غصباً عنك وتذهب تبحث لهم عن رزقٍ شحيح.
ذلك الرجل هو اليمن. وهو مجرد نسخة مكررة من ملايين اليمنيين البائسين المحطمين المغلوبين على أمرهم؛ هو النصّ الحقيقي للوجع الصارخ، والصورة التي تكفي لتكشف حجم الخيانة التي يعيشها هذا الوطن، وتفضح لعبة الترف والخراب.
نفهم هنا معنى الفلسفة الأخلاقية حين تتحول القيادة إلى تجارة رابحة، وحين تتحول الحرب إلى اقتصاد مُنظم: اقتصاد للجوع لا شبع فيه، واقتصاد يتضخم فيه الجنرالات بينما يتبخر فيه البشر.
لقد تحولت الحرب إلى ميتافيزيقا كاملة؛ نظام لا يرى الإنسان إلا مادة خامًا، ولا يعترف بمعاناته الواضحة، ويمنحه سوى دور الضحية المقدر.
لقد أصبح اليمني غريباً في أرضه، مُحاصَراً بنقاط التفتيش التي بثّتها المليشيات هنا وهناك. تحوّلت المسافات من ساعات قليلة إلى رحلات شاقة طويلة؛ فما كان يحتاج ساعتين للوصول،
صار يتطلب ثماني ساعات من العناء والمخاطر. أصبح الشمالي في الجنوب محارباً، وصاحب تعز لا يستطيع أن يذهب إلى صنعاء بسهولة من كثرة النقاط والجباية، وكذلك أهل صنعاء ومأرب لا يستطيعون زيارة مدنهم إلا بعد جهدٍ جهيد، وهكذا دواليك.
الشعب يدفع الثمن كاملًا غير منقوص دون أن يحصل على فتات من أرباح الحرب، ولا على وعود السلم الكاذبة.
وهنا نصل إلى السؤال الفلسفي الوجودي: لماذا يقبل المجتمع بظلم يعرف أنه ظلمٌ بينٌ؟ لأن الظلم حين يصبح منظومة متكاملة، يتحول إلى عادة يومية، ثم إلى قَدَرٍ محتوم. وهكذا يتجذر الخراب، وتزدهر تجارة الحروب، وتتمدد سطوة البيادق على مساحة الزمن الطويل.
إن خلاص اليمن ليس في هدنةٍ تُكتب حبرًا، بل في ثورة في الوعي تجتاح النفوس: أن يدرك الناس أن الذين يحكمونهم ليسوا قادة حكماء بل بيادق تُحرّك. الحرب ستنتهي يوم يُكسر احتكارهم لهذا المشهد المظلم.
وفي اللحظة التي يفهم فيها الشعب اللعبة، لن يحتاج إلى إسقاط البيادق... بل ستسقط هي وحدها. سيعود اليمن وطنًا أصيلاً لا مجرد رقعة شطرنج تُرمى.
وفي النهاية، سيبقى القانون الأبدي للتاريخ:
البيادق تسقط دائمًا...
والوطن وحده هو الذي يبقى... ويزدهر.