كان معهم دولة ونصف!!!
كردستان كانت تمتلك دولة كاملة بكل إمكاناتها، وشكّلت فيها حكومة وبرلمانًا ودستورًا، وافتتحت مكاتب تنسيق في أنحاء العالم، حتى أن كثيرًا من الدول فتحت لهم مكاتب مماثلة.
أبرموا صفقات نفطية، وازدهر الاقتصاد الكردستاني، وارتفعت المدن، وأصبحت المنطقة شبه مستقلة.
وفوق ذلك، كان لهم “نصف دولة” أخرى في الحكومة المركزية ببغداد، بما في ذلك منصب رئيس الجمهورية العراقي. وأزيدكم من الشعر بيتًا، أن البارزاني كان يعدّ حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة الأمريكية،
وتربط الأكراد علاقة قوية بإسرائيل. كانت لديهم مؤسسات دولة حقيقية: حكومة، وبرلمان، وتمثيل تجاري وسياسي في دول العالم، وحتى خطوط طيران دولية تصل إليهم، فضلًا عن إدارتهم للمعابر الحدودية، وكسبهم ثقة العالم بأنهم ليسوا ميليشيات، بل مؤسسات دولة منظمة.
ورغم أن الأكراد كانوا يملكون “دولة ونصف”، فقد قرروا اتخاذ خطوات أحادية الجانب بتنظيم استفتاء على الانفصال عن العراق، مستغلّين ضعف الدولة العراقية وتنازع القوى الداخلية فيها،
فوجدوا الفرصة سانحة. حقق الاستفتاء لقيادتهم شعبية كبيرة داخليًا وطبلوا ليل ونهار، لكن القيادة الكردية تجاهلت النصائح القائلة إن الانفصال لا يتحقق بالاستفتاءات ولا بالحشود، بل بالحوار.
وجاء الرفض للاستفتاء من الداخل العراقي الضعيف ومن الخارج على حد سواء — من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وسائر المنظمات الدولية كجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي — وكل تلك المواقف كانت داعمة للحكومة العراقية برغم هشاشتها وتمزقها.
استندت الحكومة العراقية إلى الدستور في رفضها لما حصل، واتبعت ما يمكن تسميته بـ “السياسة الناعمة”، أي الاعتراض الرسمي والمذكرات الدبلوماسية. تجسّدت هذه السياسة أولًا في رفض الحوار مع حكومة كردستان — حكومة،
وليست ميليشيا كما الحال في بعض البلدان — ثم تطور الموقف إلى تصعيد عسكري. ورغم امتلاك كردستان جيشًا خاصًا ومطارات وصفقات تسليح ولغتهم وتاريخهم الخاص، فإن القيادة العراقية لم تأبه لذلك،
وطلبت صراحة من حكومة الإقليم تسليم المطارات والمعابر الحدودية.
ورغم انشغال الحكومة بقتال تنظيم داعش واستعادة المدن، فإنها أظهرت صلابة وقدرة على إدارة الأزمة الانفصالية. وبعد تحرير مدينة الحويجة، اشتبكت القوات العراقية مع قوات البيشمركة،
وانتهى الأمر بإدراك حكومة كردستان أن المسألة ليست مزاحًا، فسلمت مطار كركوك، ومعسكر كيوان، وحقول وآبار النفط، ومحافظة كركوك، وجلولاء، وسنجار وغيرها إلى الحكومة المركزية.
كانت أمام حكومة كردستان — وهي حكومة تدرك معنى الدولة — خيارات متعددة: التصعيد العسكري، أو التراجع، أو الحوار، أو التمسك بالموقف حتى الحرب الأهلية كما هو مألوف في إدارة الأزمات والصراعات.
وفي النهاية، أُحيل الأمر إلى المادة (140) من الدستور العراقي الخاصة بحلّ قضية كركوك والمناطق الكردية، مع التأكيد على صون وحدة الأراضي العراقية والالتزام بالدستور. أي إن خيار الحوار والدستور انتصر في النهاية.
وهكذا، فإن دستور الدولة اليمنية هو أيضًا من سينتصر، حتى لو وقف العالم واقول العالم كله في صفّ الانفصال واليمن في الصف الآخر.
فلا تغرّنكم أصوات “الذباب الإلكتروني” ولا صدى الباطل. المهم أن الشرعية تعرف موقعها وتؤدي واجبها الدستوري ولاتنهار، فلا تنتظر من غيرها أن يقوم بذلك عنها وليس مهمًا في الوقت الراهن من يسيطر، فالثمرة تسقط من تلقاء نفسها عندما تنضج.
أما الانفصال فله خطوات محددة، ولا يمكن تقديم العربة على الحصان فيها. فلا يخدعنّكم من يقول “كنّا دولة ونحن نفك الارتباط”،
لأن ذلك قول مضحك، إذ لا يوجد أي نصّ دستوري يمنح الشمال أو الجنوب هذا الحق. فالدولتان الشمالية والجنوبية انتهتا قانونيًا وفق القانون الدولي قبل أكثر من ثلاثة عقود، وهناك دستور استُفتي عليه وأصبح ساري المفعول.
أما الخطوات نحو الانفصال — إن قُدّر واتُّفق عليها — فلا بد أن تسبقه نهاية الحرب، ورفع اليمن من تحت البند السابع، ثم إجراء استفتاء على مسودة الدستور الجديدة والفيدرالية
كما اتفق الجميع في مؤتمر الحوار الوطني. فإن رُفضت، فلن يكون هناك انفصال لأن الدستور الحالي هو الساري. أما إذا وافق الشعب على صيغة الأقاليم، فيأتي بعد ذلك استفتاء على حق تقرير المصير، بشرط —
وأقول بشرط — أن يتضمن الدستور نصًا صريحًا أُقرّ مسبقًا يجيز ذلك. فإذا جاءت أغلبية الشعب مع الانفصال، فحينئذٍ ليكن ما أرادوا، وربنا معهم.
وأخيرًا، أبنائي وبناتي، عودوا إلى بيوتكم، ولا تُضيّعوا أوقاتكم في مشاريع مآلها الفشل. انظروا إلى من كانوا في السلطة أمس ومن هم فيها اليوم، فهم وأُسرهم المستفيدون من النصر أو الهزيمة، ومن الحروب أيضًا،
بينما أنتم من يدفع حياته ثمنًا لكلماتٍ وشعاراتٍ وأوهامٍ لن تجنوا منها شيئًا، وسينتهي بكم الحال شُقاةً تعملون باليومية عند الآخرين.
أبنائي وبناتي، اعلموا أنّ بلدكم ثاني أفقر بلدٍ في العالم، فاقدٌ لسيادته، لا يملك قراره، ولا يتحكّم حتى في أرضه، يعيش على المساعدات وسلال الغذاء.
ولن يهتمّ أحد إن مزّقتم وطنكم أو تقاتلتم من أجل زعاماتٍ كاذبة؛ لأنكم في نظر الآخرين بلا قيمة ولا أثر، يرون مكانكم على أبواب الورش والجوار تستجدون بضع دولارات حتى ببيع بلدكم.
أبنائي وبناتي، إمّا أن تكون اليمن دولةَ توافقٍ وطني تُبنى على القواسم المشتركة داخليًا وإقليميًا ودوليًا، فنصنع وطنًا تفخرون بالانتماء إليه بين الأمم، أو لن تكون لأحد بالمشاريع القائمة،
بل ستبقى صداعًا مزمنًا للجميع، وينتهي بنا الحال إلى أن نظلّ شُقاةً عند الآخرين نعيش باليومية.