تحديات الحكومة اليمنية.. الصراع الاخير
تخوض حكومة رئيس الوزراء سالم بن بريك واحدة من اعقد المعارك التي عرفتها الحكومات اليمنية خلال العقد الاخير وهي معركة تجميع الايرادات او ما تسمى داخل الاوساط السياسية والدبلوماسية بمعركة الدولة ضد اقتصاد المجموعات.
هذه المعركة ليست اجرائية ولا مالية فقط بل صراع سياسي عميق على شكل الدولة وحدود سلطتها وموقع الحكومة داخل خارطة النفوذ المشتتة منذ سنوات.
فالايرادات لم تعد مجرد ارقام تدخل البنك المركزي بل اصبحت معيارا لوجود الدولة من عدمها وبوابة لفتح ملفات الاصلاحات الاقتصادية التي يطالب بها المجتمع الدولي.
ويعتبر نجاحها شرطا لبقاء الحكومة قادرة على الاستمرار وتمويل الخدمات الاساسية وقطع الطريق على اقتصاد الحرب الذي تكرس خلال السنوات الماضية.
منذ ان تسلم بن بريك رئاسة الحكومة كان واضحا ان الملف الاقتصادي هو مركز ثقل الحكومة وان المجتمع الدولي يراقب بدقة ما اذا كانت السلطة التنفيذية ستنجح في توحيد الايرادات العامة ووقف النزيف الحاصل نتيجة احتفاظ السلطات المحلية والمحافظين بمواردهم بعيدا عن البنك المركزي في عدن.
وهذا الاحتفاظ لم يكن مجرد تجاوز اداري بل تحول خلال السنوات الماضية الى نمط حكم قائم على اقتصاد محلي مغلق لكل محافظة بوابتها وصندوقها وموازنتها ما جعل الحكومة المركزية عاجزة عن دفع الرواتب في بعض الاشهر وغير قادرة على اصلاح التعليم والصحة والامن والخدمات.
ويأتي دخول الحكومة الحالية الى هذه المعركة في ظل ارث ثقيل خلفته الحكومات السابقة التي فشلت في فرض مركزية الايرادات.
فكل حكومة كانت تعلن بدء الاصلاحات لكن المحافظين والنافذين كانوا يتمكنون في نهاية المطاف من تعطيل القرارات عبر بنية نفوذ مركبة فيها السياسي والاقتصادي والعسكري والمناطقي.
ما جعل الحديث عن توحيد الايرادات اقرب الى حلم نظري بعيد عن الواقع الا ان لحظة بن بريك تبدو مختلفة جزئيا لا لان الظروف الداخلية اسهل بل لان المجتمع الدولي اصبح اكثر تشددا في ربط اي دعم اقتصادي باصلاحات ملموسة على الارض.
الاتحاد الاوروبي والبنك الدولي وصندوق النقد اضافة الى العواصم المؤثرة في الملف اليمني باتوا يكررون موقفا واحدا لن يكون هناك دعم دون توحيد الايرادات.
وهذا الموقف لم يعد مجرد توصية بل تهديد واضح بدأ يصل الى المحافظين عبر قنوات دبلوماسية تلوح بفرض اجراءات عقابية ضد اي طرف يعيق الاصلاحات وهو تطور مهم لانه يرفع الغطاء السياسي عن حالة التفلت المالي التي كانت تتمتع بها بعض المحافظات
لكن رغم هذا الدعم لا تزال التحديات التي تواجه حكومة بن بريك معقدة للغاية فالايرادات ليست مجرد ملف مالي يتم حله بقرار اداري بل ترتبط بشبكات مصالح تشكلت خلال سنوات الحرب وبقوى امر واقع ترى في الايرادات المحلية موردا للاستمرار.
وورقة قوة تمنحها نفوذا سياسيا وامنيا داخل مناطقها ومن هنا فان اي محاولة لنقل هذه الاموال الى البنك المركزي ستكون مواجهة مباشرة مع هذه القوى ومع شبكات متجذرة من المستفيدين.
ومن التحديات الاخرى ان بعض المحافظات بات لديها هياكل مالية خاصة وصناديق مستقلة وقيادات محلية تمتلك نفوذا لا يقل احيانا عن نفوذ الوزارات المركزية ..
ما يجعل الصدام مع هذه السلطات المحلية امرا محفوفا بالمخاطر كما ان بعض القوى السياسية لا ترغب اصلا بنجاح الحكومة لانها ترى في نجاح الاصلاحات تعزيزا لموقع رئيس الوزراء داخل المشهد السياسي وهو ما يهدد طموحاتها ونفوذها داخل الدولة.
ومع ذلك فان بن بريك يمتلك عددا من عناصر القوة التي لم تتوفر لرؤساء حكومات سابقين اول هذه العناصر هو الاجماع الدولي على دعم الاصلاحات والثاني هو القبول الشعبي الواسع لفكرة استعادة الدولة المركزية خصوصا في ظل الانهيار الاقتصادي المتسارع..
المواطن اليوم لم يعد مستعدا للدفاع عن سلطات محلية احتفظت بالمال لكنها لم تقدم الخدمات بالعكس هناك شعور عام بان توحيد الايرادات قد يكون الطريق الوحيد لانقاذ الرواتب واستعادة الخدمات واعادة ترتيب المؤسسات.
العامل الثالث الذي قد يساعد بن بريك هو ان ازمة سعر الصرف باتت تهدد الجميع دون استثناء وان استمرارها بهذا الشكل سيؤدي الى وضع كارثي يشمل كل المحافظات بما في ذلك التي تحتفظ بايراداتها وهذا الواقع يجعل اي مقاومة لجهود الحكومة تبدو اقرب الى انتحار سياسي لان الانهيار المالي سيبتلع كل الاطراف.
لكن عوامل الفشل لا تزال قائمة بقوة وعلى راسها ان الحكومة لا تمتلك بالكامل ادوات القوة على الارض وان بعض المحافظات محمية بقوى سياسية وعسكرية تجعل قرار نقل الايرادات معركة لها امتدادات تتجاوز الاقتصاد ..
كما ان ضعف الادوات الرقابية وغياب منظومة مؤسسية متماسكة داخل الحكومة نفسها يضعف قدرة بن بريك على فرض قراراته حتى ان كان يمتلك الارادة.
ويبقى السؤال المركزي هل سيجد بن بريك نفسه في نفس مصير الحكومات السابقة ام ان اللحظة السياسية وطبيعة الدعم الدولي والرغبة الشعبية ستكون كافية لخلق تحول حقيقي.
الاجابة معقدة لكنها مختلفة عن الماضي فالحكومة اليوم تحت ضغط غير مسبوق ليس فقط من المجتمع الدولي بل من واقع اقتصادي ينهار بسرعة لم يعد الامر ترفا سياسيا يمكن تأجيله بل قضية وجود او انهيار..
وفي لحظات كهذه يكون النجاح او الفشل مشروطا بقدرة الحكومة على اتخاذ قرارات صعبة وعدم التراجع امام الضغوط المحلية.
واذا تمكنت الحكومة من تحقيق اختراق في هذا الملف حتى لو تدريجيا فان ذلك سيغير شكل الدولة اليمنية خلال السنوات القادمة لان توحيد الايرادات يعني تقليص اقتصاد المجموعات واعادة انتاج مركزية مالية وبناء موازنة حقيقية ووقف الفساد اللامحدود الذي اتسع تحت مظلة الحرب.
كما يعطي الحكومة قدرة على ادارة الخدمات ودفع الرواتب واجراء اصلاحات هيكلية في القطاع الاقتصادي.
اما في حال فشلت الحكومة فان العواقب ستكون قاسية ليس فقط عليها بل على الدولة نفسها لان فشل هذه المعركة يعني استمرار الانهيار المالي وانهيار العملة وتعمق اقتصاد الحرب وتفتت ما تبقى من سلطة الدولة..
وفي هذا السيناريو سيكون من الصعب على اي حكومة مستقبلية استعادة الدولة لان شبكات المصالح ستكون قد اصبحت اقوى من الحكومة نفسها.
وفي ضوء كل ذلك يبدو ان معركة الايرادات ليست اختبارا للحكومة وحدها بل اختبارا للمجتمع الدولي ايضا وللقدرة على الانتقال من دعم امني انساني الى دعم اقتصادي مؤسسي..
والكرة الان في ملعب الحكومة التي يجب ان تثبت انها قادرة على ترجمة هذا الدعم الى خطوات فعلية لا مجرد بيانات وتصريحات.
ان مستقبل الحكومة الحالية ومستقبل الاصلاحات وربما مستقبل الدولة اليمنية نفسها يتوقف على نتائج هذه المعركة.
فاذا نجح الدكتور سالم بن بريك في توحيد الايرادات سيكون قد وضع اول حجر في اعادة بناء الدولة وان فشل فسيجد نفسه في الطريق ذاته الذي سارت فيه الحكومات السابقة طريق بلا نهاية تنتهي فيه الدولة بالتآكل البطيء.
وهكذا فان معركة الايرادات اليوم ليست مجرد خطوة مالية بل لحظة فاصلة بين دولتين دولة تنهار ببطء منذ سنوات ودولة تحاول ان تبعث من جديد.
القسم السياسي
صحيفة عدن الغد